العدد 37 - بورتريه
 

محمود الريماوي

ظهر النزوع الخلافي لدى المهندس ليث شبيلات (مواليد عمان 1942) في مرحلة التحول الديمقراطي لا قبلها. سجن خلال تلك الفترة على خلفية قضية النفير بعد انتهاء الدورة البرلمانية العام 1992 وحكم بالإعدام ثم خفض الحكم الى المؤبد، وأصدر الملك الراحل الحسين عفواً عنه وأخرجه بنفسه وبسيارته من السجن الى المنزل العائلي.

قبل ذلك خاض شبيلات انتخابات تكميلية في العام 1984 وفاز بها، وقبلها كان عضواً في المجلس الوطني الاستشاري. في العام 1989 خاض الانتخابات وفاز بها في الدائرة الثالثة في العاصمة.ظهور هذا النزوع لديه والحذر الشديد من السلطات إزاءه، في مقتبل مرحلة التحول الديمقراطي، يعكس إشكالية خاصة بالرجل كما بالأداء الديمقراطي للسلطات.

واقع الأمر أن «أبو فرحان» لم يكن من المراهنين أو المتفائلين باستئناف الحياة النيابية والحزبية، وهو موقف يكاد ينفرد به عن باقي مكونات المجتمع السياسي الأردني. في تلك الأثناء كان يحذر من "ديمقراطية متاحة للجميع بمن فيهم الجواسيس" على حد تعبيره، وكما قال في ندوة عقدتها مؤسسة شومان أواخر العام 1989، إن لم تخن الذاكرة كاتب هذه السطور.

كان الرجل أكثر انسجاماً أو أقل معارضة للسلطات في مرحلة الأحكام العرفية.الإضاءة على هذا الموقف قد تساعد في فهم مواقفه "الجذرية ". واقع الأمر أن الخيار الديمقراطي لا يشكل أولوية له أو معيار قياس، رغم إعلان تمسكه بالدستور في سائر المناسبات. الأولوية لدى نقيب المهندسين الأسبق، تكمن "في الدفاع عن قضايا الأمة والوقوف في وجه أعدائها وإشهار سلاح المقاومة" حتى لو كانت الأنظمة والتيارات التي ترفع هذا اللواء، ليست ديمقراطية في شيء، وهو ما يفسر وقوفه مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين ونظامه. يذكر في إحدى مقابلاته الصحفية أنه لم يكن يؤيد ذلك النظام، لكن تيقنه من مناوأته للولايات المتحدة والتمسك بالحق الفلسطيني جعله ينحاز للنظام ورئيسه.

النظام في هذه الحالة ينوب عن الشعب بل يقفز عنه، والحزب يقفز عن الجمهور والديمقراطية الداخلية، وذلك مغفور ما دام الأمر يتعلق بممانعة لقوى الاستكبار. حتى لو كان بعض أصحاب هذه الممانعة يسومون شعوبهم العذاب، فمقاتلة الأعادي تتقدم على الاعتراف بحقوق الشعب، بما في ذلك حقها في الحياة.

لا شك أن ليث شبيلات يشكل حالة مهمة وظاهرة فريدة. وفي القناعة أن وجوده ضرورة للديمقراطية وشاهد عليها ولها، حتى لو اعتبرها من جهته نافلة، أو ليست كافية بحد ذاتها.

يوصف شبيلات بالفردية، وهو وصف لا ينفيه صاحبه، وإن كان يؤوله بسخطه على مستوى العمل العام الأهلي.واقع الحال أن مواقفه وكتاباته تنحو باتجاه تعظيم دور الفرد والقيادة الفردية.من صدام حسين الى الإمام الخميني الى السيد حسن نصرالله. تحولات العصر السياسية وانهيار المعسكر الاشتراكي الذي اتسم بين ما اتسم به بعبادة الفرد لا تستوقفه كثيراً، وتعميم الإيمان بالديمقراطية لا تستوقفه كثيراً، وإن كان يجهر بإيمانه ببعض مظاهر الديمقراطية مثل سيادة القانون، والصحافة الحرة، ودون أن يلحظ تناقضاً في ذلك.

يعارض شبيلات المعارضة، بما فيها الحركة الإسلامية، وقد نعتها غير مرة بأوصاف قاسية.أغلب الظن أن إيمانه بدور الأفراد يطغى على أي اعتبار آخر.لذلك يعمد الى التوقيع على البيانات السياسية، وينحو باتجاه إصدار البيانات منفرداً وباسم "جمعية مكافحة الصهيونية والعنصرية" أو الخطابة في مناسبات سياسية، وهي نشاطات تؤكد الميل الفردي وحتى النخبوي، رغم الحديث عن الجماهير والاندفاع نحو "النطق باسمها". أما الأحزاب فقد "نفض يده منها". ليس شرطاً شارطاً أن ينضوي سياسي في حزب ما، كيما يكتسب الأهلية والصدقية، على أن مناوأة الحياة الحزبية والاستخفاف بها، والعزوف عن الانشغال بتطويرها وتفعيلها بدعوى أنها "فاسدة وضحلة" ليس من السياسة في شيء.

شدّد أبو فرحان في غير مناسبة على اعتزاله النشاط السياسي، رغم ما يبديه من مواقف وما يطلقه من تصريحات.وقد رفض، كما تردد أوساط قريبة منه، الترشح مجدداً لمنصب نقيب المهندسين. البادي أن عزلة "الثوري" وانفراد " المجاهد " وتوحد "المفكر"، هي أقرب الى مزاجه الشخصي، من الخوض في السياسة ذات المنعرجات والزاخرة بالتفاصيل والخاضعة لاعتبارات شتى.ويكاد يكون في ذلك نسيج ذاته.مع نزوعه الى لعب أدوار تتعلق بـ"مصير الأمة" وتفيض عن حدود البلد. كانشغاله بالخطاب القومي الديني والمماهاة بينهما، وذلك عبر عضويته في "المؤتمر القومي الإسلامي" الذي يتخذ من بيروت مقراً له. لقد سبق له أن اقام في بيروت وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، بحكم ظروف عمل الوالد الدبلوماسي، فرحان شبيلات، ثم تعليمه الجامعي (في الجامعة الأميركية)، غير أن النموذج اللبناني الفريد كملتقى ثقافي وحضاري بين الشرق والغرب، والتنوع الاجتماعي فيه والتوافق الديمقراطي بين مكوناته والريادة في بناء اقتصاد خدمات لا يستوقفه كثيراً، فتجربة حزب الله المتأخرة هي وحدها ما تستحق الانشغال بها.(تجربة المقاومة الوطنية اللبنانية اليسارية لم تثر انتباهه كما تدل كتاباته، ولا منع تلك المقاومة من الاستمرار وصولاً الى تأميم المقاومة).

ليس معلوماً طبيعة الدوافع التي نقلت المهندس ليث شبيلات، من موقع الشاب شبه العلماني الى موقع الإسلام السياسي. غير أن ميوله الصوفية المبكرة التي تنسجم مع نزوعه الذاتي، ربما تفسر او لعلها كانت المدخل لتلك الانعطافة الممتدة.علاوة على ظروف انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 متزامنة مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وانعكاسها على وعي الشاب الذي كان في ثلاثينيات العمر آنذاك. وهي فترة كان البلد يشهد فيها فراغاً في الحياة السياسية، قبل أن تقلع مرحلة التحول الديمقراطي، فكان من المنتظر ان تمتلىء المخيلة بإلهامات جديدة.وان يضاف الرئيس العراقي الراحل جنباً الى جنب مع الإمام الخميني وعلى وقع الحرب الضروس بين نظامي البلدين..التي حصدت أكثر من مليون قتيل وجريح من الجانبين.. لكن تلك الكارثة ليست بذات أهمية كبرى، مقارنة بعداء النظامين والزعيمين لأميركا.

سبق لشبيلات السياسي السني - القومي، أن أيّد ولاية الفقيه التي خرج بها الإمام الخميني، ولم تلق قبولاً لدى بعض المراجع الشيعية. تفسير هذا التأييد أنه يتلاقى مع نزعة خلاصية هي بعض من البرنامج السياسي لدى أبي فرحان،وتكمن هذه النزعة في ترقب ظهور "مهدي منتظر"..يجتمع فيه البعد القومي مع الاسلامي، الديني مع الدنيوي، وهو ما يجعل شبيلات تكراراً نسيج وحده ومرآة ذاته.

ليث شبيلات: ظاهرة فريدة ونزعة “خلاصية”
 
31-Jul-2008
 
العدد 37