العدد 36 - أردني
 

عواد علي

لكل فن حكاية تروي ولادته ونشأته في الزمان والمكان. حكاية المسرح في الأردن تبدأ عام 1918 في دير اللاتين بمدينة مادبا، حينما جاء إليها كاهن عربي من بيت لحم بفلسطين يدعى أنطون الحيحي (1883- 1965). هذا الكاهن هو الرائد الأول للحركة المسرحية في فلسطين قبل النكبة. أخرج هناك أولى مسرحياته «امرؤ القيس»، وعرضها في مدينة نابلس عام 1905، ثم تلاها بمسرحيات أخرى تهدف موضوعاتها، كما تقول المراجع، إلى «استنهاض همة الأمة، وحث الناس على الالتفات إلى أمجاد الماضي تلمساً للعبرة والحافز معاً».

في مادبا، مدينة الفسيفساء العريقة في تاريخها الحضاري، وجد الكاهن آثار الخراب باديةً على الكنيسة ومدرستها، حيث كان الجيش التركي قد استولى عليهما وحولهما إلى مخازن لسلاحه وعتاده خلال الحرب العالمية الأولى، وأخذ أحرار المدينة سجناء إلى الأناضول. ولأن هذا الكاهن كان صاحب عقل تنويري وفناناً ،فقد رأى أن دوره تجاه رعيته ليس خدمتها بالوعظ وإقامة القداس والصلوات فقط، بل بنشر الثقافة بينها أيضاً.

لحسن الحظ كانت البطريركية اللاتينية تتمتع بفلسفة تربوية خاصة بها تفيد: «إن الخدمة التي نقدمها هي خدمة علمية ثقافية، فعلينا تعليم هذا الشعب (البدوي الأصل) ليصل إلى مراتب الحضارة وإلى نور العلم». استثمر الكاهن تلك الفلسفة فأنشأ جمعية باسم «الناشئة الكاثولكية العربية»، وكان من أهدافها التمثيل المسرحي، فتعاون معه الأب زكريا الشوملي في تقديم عروض مسرحية مثلها طلاب المدرسة، من بينهم روكس العزيزي، الذي أصبح في ما بعد معلماً فيها. وتذكر المراجع أسماء بعض المسرحيات مثل: صلاح الدين، وفاء العرب، السموءل، ملاك وشيطان، وهاملت. لم يقتصر جمهور تلك العروض على الطلاب، بل كان يحضرها الكبار والنساء، مسيحيون ومسلمون، ليستمتعوا بهذا الفن الذي يشخص لهم شخصيات من التاريخ لم يسمع بها أغلبهم، بحكم ظلام القرون الذي كان يطبق عليهم. ويُخيل لي الآن أنهم كانوا أشبه بجمهور رائد المسرح السوري أبي خليل القباني، يرتقون قمة (الايكربولس)، حيث يقع الدير، ويفترشون الأرض، النساء متلفعات بجلابيبهن الريفية في جهة، تحف بهن الراهبات، والرجال في الجهة الأخرى يحف بهم الآباء. وحين يبدأ العرض يفتتن الجميع بالتشخيص، وتعلو همهماتهم وصرخاتهم تأييداً للفرسان والشخصيات الخيرة، واستنكاراً لغرمائهم وأعدائهم.

إذاً، هكذا انبعثت الشرارة الأولى للحركة المسرحية المحلية في مدينة مادبا، «المكان الطيب»، فكانت الكنيسة والمدرسة هي المنارة الدينية والعلمية والثقافية قبل أن تبدأ الدولة إنشاء مؤسسات خاصة بها تعليمية أو ثقافية. وإذا ما أرخنا لولادة الحركة بتلك الشرارة فإن عمرها اليوم يكون قد بلغ 90 عاماً. ويكون بذلك نشوء المسرح قد سبق تأسيس إمارة شرق الأردن التي نشأت العام 1921.

بعض الباحثين لا يروقه ذلك، وكأن الفنون تولد وهي مكتملة النضوج، فيؤرخ لها ابتداءً من تأسيس «أسرة المسرح الأردني» العام 1963على يد المخرج هاني صنوبر وزملائه في الجامعة الأردنية. وبذلك يعطيها عمراً لا يزيد عن أربعة عقود ونصف العقد. وحتى لو قبلنا بهذا «التسنين» فإنه يؤهل الحركة لتأسيس تقاليد مسرحية راسخة؛ تتمثّل بوجود فرق مسرحية ثابتة تعمل على مدار السنة، لكل منها رؤيتها الخاصة، ومنهجها في العمل، وبرنامجها السنوي، وميزانيتها المالية. لكن للأسف لم تتأسس مثل هذه التقاليد حتى الآن، رغم ظهور فرق مسرحية عديدة استمر بعضها، وتوقف بعضها الآخر لأسباب مختلفة. إضافةً إلى وجود كليتين تخرجان متخصصين في المسرح، إحداهما في جامعة اليرموك، والثانية في الجامعة الأردنية.

غالباً ما اقتصر تقديم العروض المسرحية لتلك الفرق عبر المهرجانات السنوية التي تقيمها مديرية الفنون والمسرح، أو التي تنظمها الفرق نفسها، اعتماداً على الدعم المالي الذي تحصل عليه (أو تستجديه على حد تعبير المخرجة مجد القصص) من المؤسسات الرسمية (وزارة الثقافة، وأمانة عمان الكبرى)، وبعض البنوك والشركات المحلية، مثل: مهرجان المسرح الأردني، مهرجان عمون المسرحي، مهرجان مسرح الطفل، أيام عمان المسرحية لفرقة الفوانيس، ليالي المسرح الحر لفرقة المسرح الحر، وعشيات طقوس المسرحية لفرقة طقوس. من المعروف أن هذه المهرجانات لا تستطيع تقديم أكثر من عرضين لأي مسرحية مشاركة في فعالياتها، وبانتهاء العرضين تصبح المسرحية جزءاً من الأرشيف، وإذا كانت محظوظة وجدت من يكتب عنها متابعةً صحفيةً سريعةً في نشرة المهرجان أو في الصحف المحلية. وتنفرد وزارة الثقافة في شراء مجموعة من العروض المسرحية لتقديمها مجاناً للجمهور عدة ليالٍ، لكن ذلك، على أهميته، لا يصنع حراكاً مسرحياً متواصلاً، أو ما يُعرف بـ « المواسم المسرحية»، و«الريبورتوار» . كما ترشّح الوزارة المسرحية التي تفوز بجائزة أفضل عرض في مهرجان المسرح الأردني، لتمثيل الأردن في المهرجانات المسرحية العربية.

السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل استثمرت تلك المهرجانات الدعم المالي الحكومي لتحقيق الأهداف التي رسمتها وزارة الثقافة، ومنها: «رعاية الحركة المسرحية الأردنية، وإتاحة المجال أمام المتلقي الأردني للإطلاع على التجارب المسرحية، والإسهام في تطوير الحركة النقدية المسرحية وخبرات المسرحيين الأردنيين، وتنشيط الحياة الثقافية في الأردن، والإرتقاء بثقافة مختلف شرائح وفئات المجتمع، ونشر وتطوير الثقافة المسرحية»، كما ورد في المادة (3) من تعليمات مهرجان المسرح الأردني لسنة 2006؟ قبل الإجابة عن السؤال يجدر عرض لمحات عن بعض المهرجانات:

- تاريخياً، يُعدّ مهرجان المسرح الأردني، الذي يديره حالياً محمد العامري، أقدم المهرجانات المسرحية في الأردن، وكان حتى العام 2000 ذا طابع محلي، ثم أصبح ابتداءً من عام 2001 ذا طابع عربي تشارك فيه مجموعة من الفرق العربية، وترافق عروضه، عادةً، ندوات نقدية، وفكرية، وورشات تطبيقية، وتقديم شهادات إبداعية. ورغم التطور الملحوظ الذي شهده المهرجان في دوراته الأخيره فإنه ما زال يعاني من بعض الإخفاقات في الجوانب الإدارية، واختيار العروض المشاركة، وتسمية الضيوف والباحثين والنقاد المشاركين في ندواته الفكرية والنقدية. ولعل أبرز إشكالية بات المهرجان يواجهها منذ أن اصبحت دوراته عربيةً هي إشكالية "التسمية"، فمن مجموع اثنتي عشرة مسرحية شاركت في دورته الأخيرة (2007) كانت حصة المسرحيات العربية عشر مسرحيات، في حين أن الاسم الرسمي للمهرجان هو "مهرجان المسرح الأردني".

-يتلقى مهرجان أيام عمّان المسرحية جلّ ميزانيته المالية من أمانة عمّان الكبرى، ووزارة الثقافة. ومشكلة هذا المهرجان أنه متذبذب في مستوى دوراته، وغير قادر على تطوير فعالياته، وكأنه يبدأ دائماً من الصفر. وقد تعرض لاتهامات عديدة خلال السنوات الأخيرة أورثته سلبيات كثيرة، كانت أبرزها تهمة "التطبيع"، إلاّ أن مدير المهرجان المخرج نادر عمران فندها أكثر من مرة، واعترف بالمصاعب التي يعاني منها المهرجان، واصفاً نفسه بـ «دون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء وحده"، ومنها ما يتعلق بإمكانيات المهرجان الضعيفة التي لا تتناسب مع حجمه".

- يحتضن مهرجان عمون التجارب المسرحية الواعدة للجيل الشاب من المخرجين والممثلين والتقنيين. من ميزاته أنه قدّم للحركة المسرحية في الأردن، خلال دوراته السابقة، عدداً من المخرجين الموهوبين الذين واصلوا تجاربهم، وأثبتوا حضوراً جيداً أهّلهم للتحول من مرحلة الهواية إلى "الاحتراف"، منهم: عبد الكريم الجراح، حكيم حرب، خليل نصيرات، وعصمت فاروق.. لكن هذا المهرجان بحاجة إلى دعم مالي أكبر، وإلى سقف زمني أوسع لإنتاج المسرحيات المشاركة. - يتميز مهرجان ليالي المسرح الحر، الحديث نسبياً، بأن فعالياته تشمل تجارب مسرحية محلية وعربية بعضها للكبار وبعضها الآخر للأطفال. وهو أيضاً يحصل على ميزانيته المالية من وزارة الثقافة، وأمانة عمان الكبرى، وتتوزع عروضه على عمّان والمحافظات، ويقوم بتكريم عدد من المسرحيين الرواد الأردنيين والعرب. حسب المعلومات التي استقيتها من الفنان غنام غنام، عضو اللجنة العليا المنظمة، تُعدّ ميزانية المهرجان ضعيفة جداً، فلم تتجاوز في دورته الأخيرة، هذا العام، 10 آلاف دينار.

- آخر المهرجانات هو مهرجان "عشيات طقوس المسرحية"، الذي تنظمه فرقة طقوس المسرحية بدعم مالي من وزارة الثقافة وأمانة عمان الكبرى. بدأت دورته الأولى في منتصف تموز الجاري، متضمنةً تسعة عروض محلية، وعرضين عربيين، وعرضاً إيطالياً واحداً، قُدمت كلها في فضاءات مفتوحة غير مجهزة فنياً في حدائق الحسين. المهرجان لم يبشّر بخير، للأسف، فقد كان ضعيفاً على مستوى التنظيم والعروض، وألغيت جميع ندواته النقدية، أما الفكرية فلم تُعقد منها إلاّ اثنتان. ولم يكن اختيار مكانه موفقاً بسبب افتقاره إلى تقنيات الضوء، ورداءة أجهزة الصوت، وصعوبة وصول الجمهور إليه، مع غياب الإشارات الدالة على المواقع. إذا لم يتدارك المهرجان هذه الإخفاقات في الدورة المقبلة فإنه سيشكل عبئاً على الحركة المسرحية الأردنية، وبخاصة أن ميزانيته تفوق أضعاف ميزانية ليالي المسرح الحر، والأجدر أن يجري إنفاقها لإنتاج عروض مسرحية رصينة.

- أغلب المهرجانات المسرحية لم تستثمر، في الواقع، الدعم المالي المُقدّم لها بما يحقق الأهداف التي نادت بها، إلاّ على نحو محدود، لذا ينبغي إعادة النظر في هيكليتها، وأسلوب عملها لتكون أكثر فاعليةً، في ظل غياب حراك مسرحي حقيقي في الأردن خارج إطار المهرجانات.

المسرح في الأردن سبق نشوء الإمارة فرق ومواهب شقت طريقها ولم تؤسس لتقاليد راسخة
 
24-Jul-2008
 
العدد 36