العدد 36 - أردني
 

محمود الريماوي

ارتبطت الحياة الثقافية في الاردن بالدولة ، منذ أمد بعيد يعيده البعض الى مجالس الأمير عبدالله المؤسس التي كانت تضم أدباء وشعراء، وفقاً لمأثور عربي قديم في الحكم ، والى عهد كانت فيه الثورة العربية الكبرى تضم أدباء في صفوفها مثل الشاعر فؤاد الخطيب.غير ان هذه الرموز لم تصنع حراكا ثقافيا واجتماعيا، مقارنة بما أثاره مثلا عرار ( مصطفى وهبي التل ) الشاعر «المنشق» ، رغم أن هذا الشاعر لم ينجب تلاميذ أو سلالة شعرية.

خصوصية التطور جعلت الأردن في ما بعد ، من الدول المتقدمة نسبياً في مجال التعليم ، دون أن تصيب تقدماً مماثلاً في الحقل الثقافي .

حضور الدولة في الحياة الثقافية منذ ستينات القرن الماضي، رغم اية ملاحظات عليه ، لم يسنده ويكمله حضور للنشاط الفردي والأهلي .المحاولات على هذا الصعيد قليلة وتعرضت في حينه للتعثر ، مثل صدور مجلة «القلم الجديد» لعيسى الناعوري عام 1953 لعام واحد ، حيث لم تجد أحداً في المجتمع يسندها .وقبل ذلك مجلة «صوت الجيل» التي صدرت في الأربعينات عن ثانوية اربد للبنين وساهم فيها : اديب عباسي ، حسني فريز ، عرار ، صبحي ابو غنيمة وغيرهم . وقبلها في العام 1933 أصدر أبو غنيمة مجلة «الميثاق».

قطاع النشر غاب بصورة شبه كاملة .المحاولات السينمائية الأولى أخفقت وتعرضت للتفشيل . المسرح احتاج الى دعم رسمي كي ينهض على يد المخرج الرائد هاني صنوبر .الصحافة اليومية وجلها كان يصدر في القدس، لم تكن تخصص حيزاً يذكر للثقافة حتى بعد مضي خمسة عشر عاما على الاستقلال وعقد كامل على وحدة الضفتين .

مغزى ذلك ان المجتمع لم يكن ضنيناً أو معنياً بإطلاق وتعهد حياة ثقافية . خلافاً لما كان عليه الوضع في مصر والعراق ولبنان وسوريا ،حيث انبثقت موجات تأسيس وتحديث في تلك الدول ومجتمعاتها منذ مطلع القرن التاسع عشر.

لا ينفع في هذا المجال إلقاء اللوم على الدولة ، في الفجوة الثقافية التي نشات بين الأردن ودول شقيقة ومجاورة .كانت هناك حقا مرحلة الأحكام العرفية وأوامر الدفاع التي كممت الى حد بعيد الأفواه ، غير أنه لم يكن هناك من انتاج ثقافي وإبداعي كي يتعرض للمنع .أعمال عيسى الناعوري وقعت على بيئة غير صديقة للثقافة ، فلم تترك كبير أثر .

المحاولة الرائدة في هذا السياق هي صدور مجلة ا»لأفق الجديد» في القدس كحاضنة لتيار الحداثة في العام 1963 ، وبرعاية شاعر رائد ذي خلفية اسلامية وعلى درجة عالية من الانفتاح والموهبة ( أمين شنار ) .عاشت التجربة لخمس سنوات ، وطبعت الحياة الثقافية بطابعها لعقود تالية ، لكن لم يتم التقاط هذه التحول من القطاع الخاص او النخب المتمولة، من اجل بناء صناعة ثقافية أو حتى إشاعة مناخ ثقافي.

غير بعيد عن هذه الفترة جاء انشاء دائرة الثقافة ( الحكومية ) .التي سجلت اول اهتمام رسمي ممأسس بالحياة الثقافية . قبل ذلك رعت الدولة مهرجانات فنية ، واحتضنت عبر الإذاعة مواهب غنائية عربية وأردنية ، كما خصصت الإذاعة برامج ادبية ناجحة ظهرت فيها اسماء تيسير سبول وعبدالرحيم عمر ورسمي ابوعلي وحيدر محمود وسواهم .واعتنت وزارة التربية بإقامة مكتبات في المدارس وخصصت في المهاج الدراسي للمرحلتين الإعدادية والثانوية حصة «مكتبة « .

تبع ذلك في العام 1966انشاء مجلة «افكار» الشهرية التي صدرت عن وزارة الإعلام في حينه وبسوية جيدة ،وما زالت تواظب على الصدور.

في الفترة ذاتها أنشئت فيها الجامعة الأردنية ، برئاسة اكاديمي ومحقق وناقد هو ناصر الدين الأسد .وقد مضى وقت غير يسير ،قبل ان تترك الجامعة أثراً محدوداً لها في المجتمع الثقافي المحلي.فيما تبقى مكتبتها كأفضل ذخر ثقافي بما في ذلك غرفة المكتبة، «المنيعة» على فضول الفضوليين من الشغوفين بالمعرفة .

بهذا لم تمنع الحرب العربية الباردة في الخمسينات والستينات ،الاهتمام الرسمي بالثقافة ولا جرى تسخيرها كحال الإعلام أداة سياسية .شهدت تلك الفترة على سبيل المثال هجرة غالب هلسا الذي كان ناشطا في الحزب الشيوعي ، ولم يكن أديباً معروفاً حينها ، وذلك على خلفية عضويته في الحزب «الهدام ، المحظور» لا على خلفية إصداره كتابه القصصي الرائد « زنوج وبدو وفلاحون» .

شهدت تلك الحقبة إذن ضرباً من ضروب التحييد للثقافة ، واهتماماً على درجة من الأهمية بها .وهو ما يحسب توجهاً نحو التحديث أقدمت عليه الدولة آنذاك، بما يوازن حالة التشدد السياسي السائدة في البلاد ، ومناوأة التيار الناصري الكاسح في المنطقة.

حقبة السبعينات بدأت تشهد نشوء وزارة الثقافة ، وبدء عملية احتواء بطيء لمبدعين ومثقفين ،والحديث عن هوية لا تلحظ تركيب وتعددية المجتمع ، غير أن المجتمع الثقافي كسب إقامة وزارة على امل بناء بنية تحتية وقد نهضت بالفعل بعض هذه البنى مثل المركز الثقافي الملكي في عمان ( لم يقيض إنشاء مراكز موازية في مدن أخرى ) ودعم النشر ( بغير مطبعة )، والمشاركة في مناسبات ثقافية في الخارج ودعم فرق مسرحية. وفي هذه المرحلة بدا القطاع الثقافي الخاص نشاطه في ظهور دور النشر والفرق الفنية ، وأقامت الوزارة قدراً من التعاون، كما نشأت هيئات ثقافية مستقلة منها على الخصوص «رابطة الكتاب» التي أنشأها أدباء وسرعان ما وجهها وانضم الى عضويتها سياسيون، وهو اأمر كان مفهوماً في ظروف الأحكام العرفية لكنه تواصل بعدئذ باعتباره «حقاً مكتسبا» لأحزاب ومنظمات! . وقبل مرحلة التحول الفعلي بقليل أقدمت السلطات على إغلاق الرابطة واستولدت اتحاداً للكتاب .

منذ أواخر العام 1989 ، مع بدء مرحلة التحول الديمقراطي بصورة غير رسمية لكن واقعية ، شاعت اجواء جديدة من حرية التعبير ، أعيد فتح الرابطة وازدهرت موجات جديدة من الكتابات لمبدعين شبان ، ونشطت الجامعات الرسمية والخاصة في إقامة مواسم ثقافية ، وازداد التبادل الثقافي الرسمي والاهلي مع الخارج .

وبدأت امانة عمان تنشط في رعاية النشاطات المختلفة ، بحجم يوازي حجم رعاية الوزارة التي ظلت تنوء تحت ميزانية متواضعة، وتقلب وزراء من ذوي العلاقة ومن غير ذوي العلاقة عليها .واستقطبت الوزارة عددا من المبدعين منهم على الخصوص المرحوم مؤنس الرزاز ، والكاتب سليمان الازرعي ، وقد تحرك هؤلاء في منطقة وسطى غير خلافية ،تتعلق بدعم الآداب والفنون ، وأفرج قبل ذلك عن أعمال غالب هلسا.

لم تخل المرحلة الممتدة حتى أيام الناس هذه ، من مصادرة كتب محلية ووافدة ( وحيث تتبع دائرة المطبوعات وزارة الإعلام قبل الغائها ، لا وزارة الثقافة ).ومنع بعض المسرحيات مما أبقى في المحصلة مساحة لحرية التعبير وللتنديد بالحظر وكشفه ،غير ان المشكلات كمنت في مكان آخر ، مع غياب استراتيجية لإرساء بنى تحتية من مسارح ودار وطنية للنشر في العاصمة وبقية الحواضر ، والتقليل الرسمي من اهمية الثقافة واعتبارها وزارة هامشية ،والتطير من المثقفين لما يتصف به كثير منهم من حس نقدي ،وفقدان برامج طموحة للتنافس الجدي مع العالم العربي، او إنجاز مشروع للترجمة في الاتجاهين.

هناك ما يضيفه مثقفون على سلسلة المآخذ ،على الآداء والتوجهات الرسمية ، على أن ما يستحق قوله ، هو ان ثمة شد عكسي طارد للثقافة يأتي من جهة المجتمع الذي يزداد محافظة عبر إرساء مفاهيم تقليدية، لسائر انماط الحياة دون التخلي عن النهم الاستهلاكي واستخدام الحداثة الالكترونية لإشاعة التخلف ، أو التشكيك بالإبداع وإنكار ضرورته ، وهي معيقات بنيوية خاصة حين تلقى قبولاً من طرف جهات رسمية وتواطؤ من بعض المثقفين.

الإبداع رافعة للتغيير: حراك ثقافي فردي يبدده تقصير أهلي وتلكؤ حكومي
 
24-Jul-2008
 
العدد 36