العدد 35 - ثقافي
 

محمود الزواوي

شهدت فترة أواخر أربعينيات القرن الماضي نهاية العصر الذهبي لهوليوود وانهيار نظام الأستوديوهات نتيجة لثلاثة تطورات رئيسة هي: انتشار التلفزيون على الصعيد الشعبي. وإصدار المحكمة العليا الأميركية قرارها الخاص بمحاربة الاحتكار والذي منعت أستوديوهات السينما بموجبه من امتلاك دور العرض السينمائي، مما أضعف هيمنتها على شبكات توزيع وعرض أفلامها؛ وثالثها صدور ما يعرف بالقائمة السوداء التي حرمت هوليوود من عدد كبير من أبرع كتابها ومخرجيها وفنييها لاتهامهم بالولاء للشيوعية.

مع أن انتشار التلفزيون كان أقوى هذه الضربات الثلاث الموجعة التي غيرت واقع السينما الأميركية إلى الأبد، فإن القائمة السوداء تعدّ فترة مظلمة ومؤسفة يحاول السينمائيون الأميركيون نسيانها لما تحمله من ذكريات مأساوية أليمة، وما زالت تسبب وخز الضمير في المؤسسة السينمائية الأميركية رغم مضي ستين عاما على ظهورها.

قبل نحو ستين عاما اجتاحت هوليوود موجة من الرعب بسبب التحقيقات التي كانت تجريها آنذاك لجنة النشاطات غير الأميركية التابعة لمجلس النواب الأميركي حول النفوذ الشيوعي في الولايات المتحدة، والتي طالت هوليوود.

واقترنت تلك المرحلة باستسلام وإذعان أستوديوهات هوليوود ونقاباتها ونجومها وفنييها لتلك اللجنة. طالبت الأستوديوهات كتابها وممثليها وغيرهم من العاملين فيها بالتعاون مع تلك اللجنة وبالكشف عن أسماء الشيوعيين والمتعاطفين معهم. وتم طرد كل من كان يرفض التعاون من عمله في الاستوديو الذي كان ينتمي إليه ووضع اسمه على "القائمة السوداء"، مما كان يعني حرمانه من العمل في أي استوديو سينمائي أميركي آخر.

وشملت ضحايا القائمة السوداء الكثيرين، ممن أظهروا ميولاً نحو الشيوعية في شبابهم أو كانوا قد وقّعوا عرائض ذات ميول يسارية في الماضي، والكثيرين ممن رفضوا الإدلاء بشهاداتهم أمام اللجنة. وأدت الحملة المسعورة المرافقة لذلك إلى إلحاق الأذى بالمئات ممن حرموا من العمل في صناعة السينما. فمنهم من لجأ إلى أوروبا أو المكسيك بحثاً عن عمل، ومن هؤلاء من نجحوا أو فشلوا، ومنهم من بحثوا عن أي عمل آخر، ومنهم من انتحر تحت وطأة الضغوط التي لم تحتمل.

وهناك فئة من الكتّاب السينمائيين الذين خسروا وظائفهم ممن لجأوا إلى استخدام أسماء مستعارة كأسماء أقربائهم أو أصدقائهم لتسويق قصصهم السينمائية. والمحصلة النهائية لفترة القائمة السوداء هي أن هوليوود فقدت خدمات المئات من الفنانين الموهوبين، كما شاع في هوليوود جو من الذعر وعدم الثقة حين وشى الصديق بالصديق.

تزعم الحملة المناهضة للشيوعيين المزعومين في الولايات المتحدة السناتور جوزيف مكارثي الذي أطلق اسمه على تلك الفترة التي أصبحت تعرف باسم "حقبة مكارثي"، حيث أخذ يوجّه التهم للشيوعيين المزعومين ليس في هوليوود فحسب، بل وحتى في وزارة الخارجية الأميركية وفي الجيش الأميركي، وأشاع جواً هستيرياً من الخوف والترهيب في المجتمع الأميركي بحجة ملاحقة هؤلاء الشيوعيين المزعومين.

تمثل حقبة مكارثي وصمة في التاريخ الأميركي بسبب الاعتداء خلال تلك الفترة على الحريات التي يضمنها الدستور والتشهير بالكثير من الأبرياء دون حق على يد السناتور مكارثي الذي انتهت فترة ظلمه وجبروته حين تحدّاه بجرأة وشجاعة الإعلامي التلفزيوني الأميركي الشهير إدوارد مورو وفريقه التلفزيوني في شبكة سي بي إس، وذلك بعد أن بلغت حملة مكارثي ذروتها حين اتهم طياراً بالشيوعية، وتم طرد ذلك الطيار من القوات المسلحة الأميركية من دون محاكمة استنادا إلى اتهامات قال مكارثي إنه يحتفظ بأدلة عليها.

إلا أن إدوارد مورو وفريقه قرروا تفجير الموقف ضد مكارثي في لحظة حاسمة من التاريخ الأميركي، كانت بمثابة بداية النهاية بالنسبة للسناتور مكارثي الذي فشل في تقديم تلك الأدلة، وحاول أن يقلب الطاولة على إدوارد مورو واتهمه بمحاباة الشيوعيين. إلا أن مورو رد عليه بحزم واتهمه باللجوء إلى أسلوب كيل الاتهامات ضد الأبرياء من دون تقديم الأدلة، ونجح في إثارة الشعب ضد جو الخوف الذي كان سائدا في الولايات المتحدة آنذاك.

في نهاية المطاف تمت إدانة السناتور مكارثي من قبل زملائه أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي في أواخر العام 1954 بتهمة إساءة استخدام سلطاته، وقضى السنوات الأخيرة من حياته في شبه عزلة وفي الإدمان على شرب الكحول، ما أدى إلى وفاته في العام 1957 في سن الثامنة والأربعين.

حاولت هوليوود خلال السنوات اللاحقة التكفير عن شعورها بالذنب عن طريق إعادة الاعتبار لعشرات الفنانين المظلومين من ضحايا القائمة السوداء، وأعادت نقابة الكتاب السينمائيين الأميركيين حقوق التأليف لنحو 50 من الكتاب السينمائيين الذين أدرجت أسماؤهم في القائمة السوداء ممن استخدموا أسماء مستعارة في قصصهم السينمائية، كما أعيدت جوائز الأوسكار لبعضهم.

تناولت هوليوود موضوع القائمة السوداء في عدد من الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية. ولعل أشهر فيلمين في هذا المجال هما كل من فيلم "الجبهة" (1976) للمخرج مارتن ريت والممثل وودي ألين، وفيلم "مساء طيبا وحظا سعيدا" (2005) الذي يوثق وقائع المجابهة بين الإعلامي إدوارد مورو والسناتور جوزيف مكارثي، والفيلم الأخير فاز باثنتين وعشرين جائزة سينمائية وهو من إخراج وبطولة الفنان جورج كلوني.

الذكرى الستون للمكارثية في هوليوود
 
17-Jul-2008
 
العدد 35