العدد 35 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

ما زال يعيش على راتبه، في منزل مستأجر في إحدى ضواحي عمان. معتزاً بخياراته السياسية والأيديولوجية في زمن غادر فيه كثير من الرفاق مناخات الأيديولوجيا وتسلقوا إلى الشجرة!.

في أحداق الطفيلة ولد العام 1948، لأب ضابط في الأمن العام، وعرف في مقتبل طفولته وصباه التنقل بين الضفتين. «التنقل أعفاني من العصبوية، والجهوية، ونقلني إلى رحابة الوطن». يقر مازن الساكت، البعثي المخضرم، صاحب التجارب الحزبية المتنوعة، وأمين عام ديوان الخدمة المدنية.

درس الابتدائية والإعدادية بين عمان، واربد، وأكمل الثانوية في كلية الحسين التي أنهى التوجيهي منها العام 1965.

سافر الى يوغسلافيا لدراسة الهندسة، غير أن السياسة أخذته بقوة أمواج نهر الدانوب الذي يخترق بلغراد. فانضم إلى الاتحاد العام لطلبة الأردن، وانتمى للبعث العام 1966.

غادر بلغراد دون أن يكمل دراسته، مسحوراً بفكرة المقاومة الفلسطينية التي تفجرت في تلك السنوات، وانضم الى جبهة التحرير العربية «جناح فلسطيني بعثي مدعوم من العراق» : «المقاومة كانت فكرة مثالية جميلة لكن تجربة الواقع في معسكرات التدريب وفي التنظيمات في عمان كانت مغايرة، فقد فوجئت بالفقر السياسي والفكري لدى هذه المنظمات». يصف الساكت تجربته.

في العراق انتسب إلى جامعة بغداد دارساً للإدارة والاقتصاد. لكنه ظل نشطاً في الاتحاد الذي كان يضم 6500 طالب. يجادل بأن «تجربته الطلابية والنقابية أوسع من تجربته السياسية، وهي من الخصائص التي جعلته أكثر انفتاحاً واتساعاً من العقل الحزبي».

تركت بيروت السبعينيات بصماتها فيه، وأخذه تنوعها ومخاضها الفكري، والسياسي، والثقافي «معظم ما اكتسبتاه استقيناه من تلك البيئة».

المؤتمر السياسي للاتحاد الذي انعقد منتصف السبعينيات كان نقطة تحول بارزة، فقد شكل «حالة الوعي لحمل برنامج التحول الديمقراطي مبكراً» بحسب الساكت، الذي قدم التقرير السياسي للمؤتمر، وقال فيه «آن الأوان للانتقال للعمل الطلابي العلني داخل الأردن، بعد أن انتقل الثقل الطلابي إثر إنشاء الجامعات وتوسعها إلى الوطن، ولم يعد صحيحاً أن ترفع الحركة الطلابية برنامج الحركة السياسية الصدامي، وأن عليها أن ترفع شعارات التطلع إلى الحريات الديمقراطية». وهو موقف تشارك به مع ميشيل النمري، لكن أقوال الساكت تعرضت لانتقادات من البعض، وعلى رأسهم صالح القلاب، الذي اعتبر أن «التقرير يتضمن نوعاً من التخلي عن برنامج التغيير الجذري والثوري». بحسب الساكت أيضاً.

غداة «تل الزعتر» ودخول السوريين العام 1976، غادر بيروت إلى بغداد، واختير في العام 1978 عضواً في المكتب الطلابي لحزب البعث.

حدثان مصيريان دفعاه لمغادرة العراق: اعتقال وتصفية القيادي، عبد الخالق السامرائي، ثم ما سمي آنذاك بالمؤامرة وترتب عليه اعتقال الأمين العام المساعد للحزب، منيف الرزاز. وقف إلى جانب عائلة الرزاز التي كانت تحت الإقامة الجبرية رغم تحذيرات رفاقه من «عواقب وخيمة».

تعقد وضع الساكت، وأخبره القيادي نعيم حداد بأن «تقارير كانت تصله عنه، فيمزقها لكن التقارير باتت تأتي الآن من طارق عزيز ولا يقدر أن يمزقها.. وعرض عليه السفر الى أي بلد يختاره خلال أسبوع».

غادر الساكت الى الولايات المتحدة، وقد فكر بترك البعث نهائياً، لكن وقوع الحرب العراقية الإيرانية التي يراها «دفاع بقايا القومية العربية عن نفسها تجاه المد الطائفي» دفعه للتطوع في القتال على جبهة «البسيتين».

أمضى في أميركا سنتين مطلع الثمانينيات وانتقل بعدها الى تونس موظفاً في الجامعة العربية، بتوصية من غسان عطية، الأمين العام المساعد للإعلام آنذاك، ورئيس تحرير «الملف العراقي» حالياً.

بعد فترة قصيرة انتدب فيها للعمل في مكتب الجامعة في كندا، ورفض مدير مكتب واشنطن كلوفيس مقصود التحاقه بالعمل معه بصفته «مشاغباً». عين في فريق البحوث والدراسات لتقييم الخلافات بين الدول العربية.

تقرر نقل الساكت إلى الأرجنتين ثم إلى الهند بحسب طلبه الذي تشتعل المنافسة والواسطة عليه، وصدم بأن قرار نقله إلى نيودلهي جاء في أقل من 24 ساعة. فأدرك أن المطلوب إبعاده بأي ثمن. قدم استقالته، وعزم على العودة إلى الأردن.

يذكر لسفير الأردن في «الخضراء» المرحوم طلال سطعان الحسن، انه أقام له حفلا وداعيا، في زمن الأحكام العرفية، ما يدل على الخصوصية الأردنية وكم كان المرحوم كبيراً.

لقي معاملة جيدة ومحترمة أثناء التحقيق معه بعيد عودته إلى عمان العام 1987، التحق بعدها بالعمل في بنك البتراء «وين ما أروح بتلاحقني الكوارث»، فبعد عمله لعامين مديراً إدارياً وقعت أزمة بنك البتراء. عينته لجنة تصفية البنك رئيساً لهيئة مديري السيفوي، ثم عمل مستشاراً ثم مساعداً للأمين العام في وزارة المياه والري، لكنه لم يلبث أن اختلف مع الوزير صالح ارشيدات واستقال.

رأى أن قيام «التجمع القومي الوحدوي الديمقراطي» مطلع التسعينيات نتاج لتحالف أحزاب أردنية مع شخصيات منها: محمد فارس الطراونة، وفارس النابلسي، وصالح ارشيدات، وعلي أبو الراغب، وممدوح العبادي، ومؤنس الرزاز، ومحمد خير حوراني وآخرين، «أدى الى تعطيل نشوء قوى جديدة، كما أدى الى ضعف الأحزاب وتراجعها الى الوراء، فيما قفزت تلك الشخصيات إلى الحكومة».

أسس «الحزب العربي الديمقراطي» في العام 1991 كان من أعضائه: محمد البشير، وسمير الحباشنة، ومؤنس الرزاز، ومحمد داودية، ومحمد القيسي، وأحمد الهياجنة.

شهد الحزب انسحابات كبيرة من عضويته.أواسط التسعينيات شكل مع قوى ديمقراطية ويسارية «الحزب الوحدوي الديمقراطي» واختير الساكت أميناً عاماً له، لكن دخول مصطفى شنيكات في حكومة الكباريتي 1996، وتفجر أحداث الخبز في العام نفسه أديا إلى انقسام داخل الحزب. ترتب عليه خروج الساكت ومجموعته.

اختياره لديوان الخدمة المدنية إبان حكومة أبو الراغب جاء بناء على علاقاته الشخصية، كجل التعيينات في البلد، وظن كثير من الموظفين أنه جاء بالبراشوت، لكن من تحدثنا معهم يقرون «بأن الساكت ترك بصمات مهمة وكأنه جاء من رحم الديوان».

كان مثيراً أن بعض عتاقى القوميين التقوا العام الفائت بدعوة من المرحوم جمال الشاعر للتباحث في توحيد جهودهم، فكان رأيه الصادم لهم: القديم لا يمكن أن ينتج جديداً، كيف يمكن أن تتصوروا أن تعيدوا بناء أداة سياسية ليس عمادها الشباب والطلبة، فحتى أولادكم ليس منهم من يعمل بالسياسة. يجب أن ننظر الى أبنائنا كمؤشر على عصر جديد فقدنا التواصل معه».

أحياناً حين يسترسل في التذكر يفجعه قدرة بعض الأشخاص على القفز بمقدار 180 درجة.. ولعله يستعيد ما قاله صولون، حكيم أثينا، حين بلغ من العمر عتياً، «إني لتكبر سني وما فتئت أتعلم»!.

مازن الساكت: بعثي عتيق لم يتسلق الشجرة
 
17-Jul-2008
 
العدد 35