العدد 32 - أردني
 

نهاد الجريري

"الرقم المعتم" Dark Figure، هو المصطلح الذي اتفق علماء الجريمة والاجتماع في العالم على استخدامه للتعبير عن الفجوة بين الحجم الحقيقي للجريمة في المجتمع، وذاك الذي ترصده بيانات الأجهزة المعنية في أي بلد من بلدان العالم.

يتفق هؤلاء على أن حجم الجريمة الحقيقي في المجتمع أكبر مما ترصده الشرطة. أستاذ الاجتماع تيموثي ميسن، من جامعة فرساي الفرنسية، يقول مشخصا هذا المفهوم إن السبب في ذلك لا يعود إلى أن أرقام الشرطة غير صحيحة، وإنما إلى عاملين مهمين، الأول: التصنيفات المتعلقة ببيانات الشرطة، والثاني: النمط الاجتماعي المتمثل في عدم التبليغ عن الجريمة مهما صغرت أو كبرت.

عندنا في الأردن، يلحظ أستاذ الاجتماع في الجامعة الأردنية موسى شتيوي أن هناك تناقصا في أعداد الجريمة كما عكستها إحصاءات رسمية بين عامي 2001 و 2006. ففي عام 2001 بلغ عدد الجرائم المرتكبة نحو 60855 (منها 6995 جناية و 53860 جنحة). أما في 2002 فبلغ عدد الجرائم 30858، (منها 6552 جناية و24306 جنحة). لكن شتيوي يلحظ أن هذا الانخفاض غير حقيقي، فقد رصد "إسقاط" عدد من الجنح من البيانات النهائية المأخوذة من الكتاب الإحصائي السنوي لعام 2005 الصادر عن دائرة الإحصاءات العامة، والمستند بدوره إلى تقارير مديرية الأمن العام. الجنح التي لم تظهر هي: الإيذاء البسيط، وهي جنحة وقع منها عام 2001 نحو 13876 حالة، ذم وتحقير الموظفين، تزوير الأوراق الخاصة، التعدي على الشعائر الدينية، العثور على طفل مجهول النسب، تجاوز الحدود، السكر المقرون بالشغب، اختلاق الجرائم والافتراء، عرقلة العدالة، إعطاء معلومات كاذبة، الفرار من الحفظ القانوني.

ظهر في التقرير الإحصائي السنوي لعام 2006 حول أعداد الجريمة للأعوام من 2002-2006، أنه تمت إضافة جنح لم تسجل في التقرير السابق مثل: مخالفة قانون الآثار، سرقة السيارات، تحرير شيك بدون رصيد، الحض على الفجور. إلا أن المجموع النهائي للجرائم ظل متطابقا في السنوات التي وثق لها التقريران. كما لوحظ أن جرائم المخدرات في بند الجنايات في تصنيفات 2002 في لعام 2005 بلغت 1283 حالة، بينما صُنفت في تقرير 2006 إلى 3 مجموعات: جرائم مخدرات جنائية وعددها 240، جنح متعلقة بتعاطي وحيازة المخدرات وبلغ مجموعها 1043 حالة.

هذه الأرقام تدل على تفاوت في عملية التصنيف أو التبويب. مديرية الأمن العام، وفي تصريحات أولية غير رسمية، أشارت إلى عدم وجود أي تفاوت، وإلى أن البيانات موجودة وموثقة، وأن المديرية تعطي هذه البيانات أحيانا بحسب الغرض المطلوب منها "فلو طلبت جهة بيانات لجرائم معينة، فإن المديرية تصدر تلك البيانات دون غيرها،".

مطلع نيسان/أبريل الماضي عقدت مديرية الأمن العام مؤتمرا صحفيا عن معدلات الجريمة في الربع الأول من العام الجاري، أشارت فيه ضمن إحصائياتها إلى تسجيل 442 جنحة إيذاء بسيط، و 298 حالة سكر مقرون بالشغب: وهما جنحتان لاحظ الباحث الأكاديمي شتيوي عدم ظهورهما في البيانات النهائية للأمن العام.

تظل مسألة التبويب والتصنيف والتوثيق بالغة الأهمية، ليس فقط من حيث تحديد حجم الجريمة وتطورها، وإنما من حيث إجراء الدراسات التي توضع أمام صانع القرار في رسم استراتيجيات لمعالجة الجريمة بمنظورها الشامل.

ذياب بداينة نائب رئيس جامعة الحسين في معان يقول "ليس لدى الأجهزة الأمنية تصنيف موحد معتمد، ففي كل مرة تتولى لجنة معينة أو دائرة ما إخراج التقارير، يكون ذلك بحسب اجتهاداتها، وعليه لا بد من وجود تصنيف علمي للجريمة حتى تكون التقارير المبنية عليها علمية ودقيقة." ويضيف أن التقارير المفصلة القائمة على أساس علمي لا غنى عنها في رسم السياسات التي تفضي في نهاية الأمر إلى التنبؤ بالجريمة حتى قبل وقوعها، وإلى اتخاذ القرارات المتعلقة بتدريب عناصر الأمن وتوزيعهم اللوجستي، بحسب التوزيع الجغرافي لأنماط الجريمة. كما تفيد في تحديد أنماط الجريمة المستحدثة بحيث يصار إلى السرعة في معالجتها قبل تفاقمها. ويركز بداينة على أهمية مثل هذه التقارير في عملية الإصلاح والتأهيل ، ويتساءل: "إذا أردنا أن نبني مركز إصلاح في مدينة ما فكيف نبنيه إذا لم تتوافر لدينا معلومات عن معدلات الجرائم وأنواعها وعن سلوكيات المجرمين في تلك المنطقة؟" وينتهي بداينة إلى القول "عمليا، نحن لا نملك برامج إصلاحية فعلية."

في الجانب المتعلق بالفرق بين الأرقام الرسمية للجريمة والحجم الحقيقي لها، تبرز مسألة الجرائم التي لا تصل قط إلى السلطات الأمنية، فلا يتم تسجيلها أو توثيقها برغم وجودها. وهذه ظاهرة عامة في كل بلدان العالم، والأردن ليس استثناء.

أدبيات علم الجريمة تشير إلى مجموعة عوامل تسهم في عدم التبليغ عن طائفة من الجرائم. من أهم هذه العوامل اعتبار الجريمة "تافهة"، إحساس الضحية بالحرج، عدم إدراك الضحية لوقوع جريمة في الأصل (كما في حالات الاحتيال، أو في حالة الأطفال الذين لا يدركون أنهم تعرضوا لخطأ بحقهم)، عدم الثقة بالشرطة، الخوف من رد فعل الجاني (الانتقام)، عدم الرغبة في إيذاء الجاني (كما في حالات العنف العائلي).

هذه عوامل عالمية، إن جاز التعبير، تنطبق على أي مجتمع.

في قصة سابقة عرضتها ے عن التحرش الجنسي الذي تتعرض له السكرتيرات، بدا واضحا تخوف لدى اللجان العمالية المشرفة على هذا القطاع، ولدى السكرتيرات أنفسهن، من أن يتم تسليط الضوء على هذه المعاناة "حتى لا يوصم هذا القطاع بهذه الممارسات ‘الفردية‘" أو "تجنبا للفضيحة." فيضيع حق الفتاة التي كثيرا ما ينتهي بها الأمر بتركها العمل أو الاستمرار على مضض حتى تجد عملاً آخر تعتاش منه.

وهكذا: إما يُسكت عن المحظور، وبخاصة ما يتعلق بالعنف الجسدي والجنسي الذي يتعرض له أفراد داخل بعض العائلات، أو يتم حل بعض القضايا في إطار عشائري، أو "في مخافر الشرطة بحيث لا تدخل قضايا معينة من الشجار مثلا في السجلات الرسمية،" كما يلحظ بداينة.

يقول أستاذ الاجتماع في الجامعة الأردنية سري ناصر إن "مجتمعنا يعيش مرحلة انتقال من العشائرية إلى المدنية؛ فالعشيرة في مفهومنا هي التي تحمي وليس الدولة". ويلحظ ناصر أن هذه الممارسات "ليست بالكثرة التي كنا نشهدها في الماضي، وهي في طريقها إلى الزوال".

وللوقوف على الحجم الحقيقي للجريمة في المجتمعات، طور علماء الاجتماع والجريمة مسوحات سكانية توثق للجرائم التي لا تصل إلى الشرطة، ولكل ما يتصل بالجاني والضحية على حد سواء بما يتعلق بالجنس والعمر ومكان السكن والأنماط السلوكية المتبعة في التعامل مع جريمة ما.

في الأردن، أجرت دائرة الإحصاءات العامة مسحا للأسر متعدد الأهداف للعام 2002/2003، حول تعرض السكان للجريمة أو اعتقادهم بوجود الجريمة في أحيائهم. محافظة الزرقاء حلت أولا بنسبة وصلت 23.2بالمئة من حيث الاعتقاد بأن الجريمة أو العنف يمثل مشكلة بالنسبة للسكان.

ومن المسوحات المشهورة عالميا، التي باتت رافدا لصناع القرار من مسؤولين في وزارتي الداخلية أو العدل أو في السلطات الأمنية، ما درجت عليه مؤسسات حكومية في بريطانيا (المسح البريطاني للجريمة British Crime Survey) والولايات المتحدة الأميركية (المسح الوطني لضحايا الجريمة National Crime Victimization Survey).

النموذج البريطاني تقوم عليه وحدة إحصاءات تطوير البحث التابعة لوزارة الداخلية، التي تجري مسوحات دورية سنوية لتحديد معدلات الجريمة بحيث تكون مكملات للسجلات الشرطية. هذا المسح بدأ عام 1982، واستمر بشكل غير منتظم، إذ كان يجري كل عامين أو أربعة، حتى عام 2001 عندما بدأ تطبيقه بشكل سنوي.

الموقع الرسمي للوحدة يعرف عملها بأنه «يهدف إلى مساعدة وزراء الداخلية وصناع القرار على معالجة قضايا المواطنين العاديين، وإحداث تحول اجتماعي في المجالات المستعصية مثل الجريمة والمخدرات.»

في ظل فجوة “الرقم المعتم” الجريمة: حقيقة ضائعة بين البيانات الرسمية والدراسات الأكاديمية
 
26-Jun-2008
 
العدد 32