العدد 5 - ثقافي
 

لم يكن أحد أيام الثلاثاء من العام الماضي يوماً عادياً. فأول ما يستنتجه المرء بعد ساعتين من التحكيم الموسيقي في مسابقة مواهب لأطفال بين السابعة والسابعة عشرة من العمر، هو تماماً ما تتحدث عنه أغنية “لسة الدنيا بخير». مفاجأة غير عادية عندما دخلت الطالبة نتالي سمعان من الصف الرابع إلى غرفة التحكيم الموسيقي لتغني أغنية “نسّم علينا الهوى” لفيروز بحس كلثومي لا يمكن التغاضي عنه وبراعة في “العُرب” الموسيقية – بضم العين –التي لا يمكن لأحد أن يتصور أن فتاة في مثل تلك السن يمكن أن تتقنها. في البداية ظننت أنها مجرد حالة استثنائية على افتراض أن جيل “سميعة الفيروزيات” قد أبيد بفعل الفضائيات الموسيقية التي تتجاهل تماماً مثل هذه الأغاني على أساس أنها “دقّة قديمة” وتتحفنا بدلاً من ذلك وتتحف أطفالنا بكل ما هو جديد من “أعمال استعراضية” لأصحاب وصاحبات الأصوات النشاز. ولكن في هذه المسابقة التي بعنوان “تألق” (والمعروفة بشكل أكبر لدى الطلاب بـ “Shine”) غنى وعزف أكثر من عشرين طالباً وطالبة من المرحلة الإبتدائية في المدرسة الأرثوذكسية أغنيات لفيروز وعبد الحليم ومارسيل خليفة، وعزفوا لبتهوفن وباخ وموتزارت، إلى أن كادت الدموع أن تنهمر عندما أنشدت حلا عصفور (الصف الرابع) أغنية لفيروز برقة تقطعت من أجلها نياط القلب، وعندما صدح صوت يزن الجرف المتأثر بحس عبد الحليم ليؤكد على أن خلف أدراج الدراسة يجلس من سيكونون أم كلثوم وفيروز وعبد حليم المستقبل – إذا ما انتبهنا!

لقد تكشفت حقيقة جديدة تبعث على فرح غامر قلّما يمكن استشفافه والواحدة منا مشغولة بمراقبة أحلام الطفولة وهي تتكسر على شاطئ الحياة الروتينية. فبكل ما لديها من قدرة على الانتشار وبكل أسلحة الدمار الذوقي الشامل التي تتقن استخدامها (برداءة) وبكل الهبوط الفني المريع الذي ما زال يصل بنا إلى ما بعد الدرك الأسفل، بسبب منتجين فنيين ينقصهم الإبداع، لم تنجح هذه الفضائيات بعد (وأملي أن لا تنجح) بإفساد أذواق الأطفال، خصوصاً ممن تتراوح أعمارهم بين السابعة والرابعة عشرة!

شباب السادسة عشرة والسابعة عشرة من العمر بدا عليهم التأثر الواضح بالأغاني الغربية. وهو أمر قد طرأ على الأجيال السابقة من أبناء المدارس الخاصة بشكل خاص. فللمراهقة حساباتها الخاصة التي قد تكون عرضية إذا ما كانت نشأة الذائقة الفنية مبنية على أسس متينة من أمثال “قارئة الفنجان” (التي غنى مقطعاً منها الطفل أنضوني من الصف الثاني)، وغيرها من المقطوعات الموسيقية لعمالقة القرن الماضي. ولكن مع تعرضهم الكبير لآخر صيحات الموضة والأغاني الهابطة المنتشرة في الأسواق، فإن موهبة “يعرب” من التوجيهي قد تربعت بكل سهولة على تلة الإبداع إذ عزف مقطوعات شرقية وكلاسيكية غربية ومقطوعات أخرى من تلحينه تأكد بعدها أن عازفاً على المستوى العربي سيصعد نجمه عما قريب.

أهم الاكتشافات كان في أن هذه المواهب الحقيقية يتم العناية بها من قبل أساتذة موسيقى ونشاط مدرسي جادين في عملهم، يتعاونون مع أهالي الأطفال (والذين قام بعضهم باصطحاب أطفالهم إلى غرفة التحكيم) يتميزون بجدية وحماسة كبيرين تجاه مواهب أطفالهم... ليضمنوا لنا جيلاً من الموسيقيين الأفذاذ الذين قد يلعبون دوراً كبيراً في مستقبل قريب في تحسين الأجواء الفنية وتغييرها، ليعودوا بنا إلى الأصالة والذوق الرفيع.

ولكن أتساءل بعد الدور الكبير الذي قامت به المدرسة: ما الذي سيحصل لهؤلاء الموسيقيين الكبار بعد تركهم المدرسة؟ هل يوجد لدينا بنية تحتية موسيقية تؤهلهم لخوض هذا المضمار بشكل مهني دون أن ينصحهم آباؤهم بعدم خوضه لأن «الموسيقى لا تطعم الخبز”؟ وأين هي المؤسسات التي على أكتافها سيقف عمالقة الموسيقى المدفونين في مدارسنا؟

السفيرة إلى النجوم والعندليب الأسمر في مدارسنا – ربى صقر
 
06-Dec-2007
 
العدد 5