العدد 31 - ثقافي
 

جهاد هديب

ينقض الشاعر زهير أبو شايب ذاته نقضا جميلا في كتابه: «ثمرة الجوز القاسية» الصادر مؤخرا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، فهو يؤكد :» سأكون كاذبا حين أكتب سيرتي الذاتية أو إذا أوحيت أنني صنعت شيئا أو أنجزت تاريخا».

في سياق الحديث عن جيله الثمانيني الذي لا صوت لبطل جمعي فيه والذي لم ينجز، أقلها، حربا واحدة، وذلك بعد صفحة واحدة لا أكثر إذ يكتب في «الصغيرة التي أصبحت جدتي» عن امرأة في قرية هي قرية بأسرها، قامتها في الكلام ( موهبتها) تبلغ قامة قرية ماكوندو في مائة عام من العزلة للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، بل تفيض عن قامة تلك القرية، بلا أية مبالغة، ذلك أن المرأة والقرية نراهما كما عايشهما زهير أبو شايب وكما يتذكرهما ومرويان بدفق من عاطفة حارّة ،وبنثر أنيق وآرستقراطي غير مترجم عن لغة الشعر.

ففي سياق هذا التناقض، كما لو أن البطولة في فرديتها العالية والعادية ليست بسيرة أيضا، أو لا تجدر بأن تكون كذلك، أو كأن «الشهادة على عصر» بأكمله ليس بوسع شخص أميّ أن يرويها من طرفه كما يفعل مثقف أو صانع أفكار أو حتى فيلسوف يمتلك شرطه الخاص. «الصغيرة التي أصبحت جدتي» ليست مقالة في السيرة الذاتية ضمها كتاب فحسب، بل هي واحدة من أرفع ما كتب أبو شايب «شعرا» بلغة النثر، الذي يجمع التأملي إلى السردي والمفارقة الشعرية في آن معا. إنها رؤية للعالم، إنما بعين ثالثة.

كتاب «ثمرة الجوز القاسية» مجموعة مقالات توزعت على فصول، يجمعها التأمل في الذات بوصفها ذاتا جمعية والتأمل في الذات الفردية بوصفها «أنا جمعية». غزارة الأفكار التي فيه أقرب ما تكون إلى ممارسة رياضة المشي في غابة ماطرة، إذ يلامس الكاتب الوتر الحساس في قضايا إشكالية تثير حواراً حولها في ثقافة عربية راهنة، جعلتها الحروب تٌحدثُ قطيعة بينها وبين أي شكل من أشكال الحوار الداخلي.

إحدى هذه القضايا والإشكاليات الثقافية العربية التي يناقشها أبو شايب بإحساس عالٍ بالمسؤولية هي: «قضية» قصيدة النثر عربيا، فيجيء في مقالته عنها ما يلي: « لقد ولدت قصيدة النثر في سياق تقوُّض الذات العربية الذي بدأ مع الحقبة الكولونيالية مرورا بنكبة فلسطين 1948 وآل إلى نكبة العراق ....، لقد كانت – أي قصيدة النثر – نصّ التقوّض الأبرز الذي أنتجته الذات العربية منذ منتصف القرن العشرين».

ربما تخلو هذه المعاينة التاريخية من النظر إلى «إشكالية» أن المجتمعات العربية آنذاك والآن عاجزة عن منح الفرد قدرة التحقق، أي أن يكون له حضوره الخاص المؤثر والمتميز بوصفه منتجا للأفكار على أقلّ تقدير. الأرجح أنّ ما حدث من تحولات عميقة في بنية الفرد العربي الثقافية والاجتماعية والنفسية ،كانت بسبب الهزائم المقرونة بقمع السلطة العربية وعجزها عن تبرير هذا القمع بإحراز نوع من النصر ولو سياسياً، وليست النكبات التي عادة ما يكون طابعها قَدَريا ولا يدَ للجنس البشري في صناعتها، الأمر الذي يخالف تماما ما حدث للفرد العربي فالنكبات بسبب طابعها ذاك لا تُحدث اغترابا بين الفرد والجماعة بل تنتج العكس.

الأرجح أنّ ما حدث في تلك الأثناء – أي منتصف القرن العشرين - هو نفور المبدع من سماته النخبوية مما نقل الحضور الخجول لقصيدة النثر إلى حضور علني، وجعل الهجومُ عليها من مشايعيها هجوم حزبيين في مقابل حزب. وهو ما نفى عن ظهورها من البدء أن يكون بروز ظاهرة أدبية محض في سياق اجتماعي / اقتصادي محدد الملامح يتصالح فيه السياق الاجتماعي مع السياق التاريخي وبالتالي تكون قصيدة النثر ظاهرة أدبية من الممكن دراستها من وجهة نظر التجنيس الأدبي. وما أضاف إلى الطين بلّة وزاد من وعورة الطريق هو أنّ الارتجال طبع «القوانين» والمواصفات التي حددها الرواد لقصيدة النثر، التي بناء عليها تعامل الآخرون مع منجزهم بوصفه تأصيلا، في الوقت الذي جرى فيه تقصّد إخفاء المرجعية الثقافية الفرنسية التي تحددت عبرها تلك المواصفات آنذاك، لأمرٍ أو لآخر لا تبرره قسوة الهجوم عليها لحظة حضورها العلني.

إنّ أحادية المرجعية الفرنسية حال دون الوصول إلى وعي حقيقي أو متعدد بالماهية المعقدة لقصيدة النثر. ذلك أن تلك القصيدة لم تنتسب إلى الثقافتين الاستعماريتين السائدتين وحدهما بل امتد ذلك إلى كل ثقافات العالم الحيّة، التي كانت ترزح تحت وطأة أنظمة شمولية كحال الثقافات الأميركية اللاتينية وثقافات آسيوية أخرى فضلا عن أميركا الشمالية كلها التي تُعَدّ الآن من أكثر مناطق العالم وثقافاته إنتاجا لقصيدة النثر المتصالح سياقها التاريخي مع سياقها الاجتماعي بسبب الدور الثقافي المؤثر للأكاديميات الجامعية في المجتمع وثقافته إلى حدّ أنّ قصيدة النثر لا تخضع مشروعيتها لأي جدل في راهن أي ثقافة في العالم باستثناء الثقافة العربية..

لقد باتت قصيدة النثر متعددة المرجعية الثقافية إلى حدّ أنه من غير الممكن نسبتها إلى ثقافة أو أخرى، هي حلم رآه أحد الشعراء الفرادى وبات يخصّ شعراء فرادى ينتمون إلى كل ثقافات العالم منذ قرن من الزمان.

لايتوقف زهير أبو شايب عند قصيدة النثر بوصفها نص تقوّض الذات العربية بل يطرح أسئلة عميقة أخرى تجدر بالتأمل، كالتجنيس والتسمية والإيقاع الداخلي وإسقاط الوزن واقتراح الإجابة عليها بالمستوى ذاته من الإحساس بالمسؤولية.

ثمرة جوز قاسية لزهير أبو شايب
 
19-Jun-2008
 
العدد 31