العدد 31 - أردني
 

فارس بريزات

يستمر تراجع ثقة الرأي العام الأردني بالحكومات المتعاقبة على الرغم من الفروق التي نشهدها بين حكومة وأخرى. الفروقات والتغيرات بين الحكومات هي فروقات وتغيرات في الدرجة وليس في النوع. أن التراجع في مستوى الثقة بحكومة ما قد يكون أسرع من غيرها، لكن الاتجاه العام هو أن المواطنين "يضجرون" من حكوماتهم بشكل سريع، بعد مائة يوم على تشكيلها، وأحياناً يتأخر هذا الضجر قليلاً، ولكنه يتبع السياق الانحداري ذاته في مستوى الثقة الشعبية بالحكومات المتعاقبة. السؤال الأساس هنا هو: ما هي أسباب هذا التراجع؟ والسؤال الذي يتبعه: ما هي انعكاساته على علاقة المواطن بالدولة؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الحالة من التراجع المستمر؟

هناك نوعان من التقييم للنظام السياسي: الأول، يعتمد على مدى ارتباط الناس بالرموز الوطنية للدولة، مثل العلم، النظام السياسي، الجيش، الأمن والاستعداد للموت في سبيل الوطن، وهو ما تسميه أدبيات العلوم السياسية "التأييد العام" (Diffuse Support). النوع الثاني هو التأييد المرتبط بسياسات بعينها (Specific Support). ويرتبط هذا النوع بالسياسات ذات الأثر المباشر على حياة الناس، خصوصاً السياسات الاقتصادية. في الأردن، تشير الدراسات المسحية إلى أن مستوى التأييد العام للنظام السياسي جيد، على الرغم من التمايز في مستوى التأييد بين العناصر الفرعية المكونة له. أما المستوى الثاني فلا يحظى بالثقل ذاته الذي يحظى به النوع الأول من التأييد لرموز النظام السياسي. ولكل مستوى من التأييد عدة تفسيرات.

التأييد العام الجيد يمكن تفسيره جزئياً بمستوى جيد من الأمن الشخصي والجماعي، مستوى معيشة أفضل مما يمكن أن تتيحه الإمكانيات المحلية والموارد الطبيعية المتاحة، استقرار سياسي، وتقدم معرفي نسبي مقارنة بالدول العربية الأخرى، بمن فيها المنتجة والمصدرة للنفط (لا شك أن هناك عوامل أخرى). أما التأييد المرتبط بالسياسات، فهو الذي يدفع بمستويات ثقة الرأي العام بالحكومة إلى الأسفل. منذ سنوات والرأي العام الأردني يقرر في استطلاع تلو الآخر أن الوضع الاقتصادي يحظى الأولوية القصوى، على الرغم من اختلاف التعبيرات بين فترة وأخرى. في العام 2000 كانت القضايا هي البطالة والفقر والوضع الاقتصادي بشكل عام. اليوم يقول نحو ثلاثة أرباع الأردنيين أن ارتفاع الأسعار بالتحديد، هو التحدي الأبرز الذي يواجه الأردن. هذا التغير لا يعني أن المجتمع يقول إن هذه المشاكل قد حُلت – وهي لم تحل بالرغم من الإنفاق الكبير الذي وجه لمعالجتها. ومن جانب آخر، لأول مرة في تاريخ الاستطلاعات في الأردن، تصل نسبة من يقولون إن وضع أسرهم الاقتصادي قد ساء مقارنة بالسنوات الثلاثة الماضية ارتفعت إلى 61بالمئة من 34بالمئة في أيار 2007. حدوث كل هذا التحول خلال عام واحد لا بد أن يُغير في تركيبة المجتمع وطبيعة استجابته لمثل هذه التحولات السريعة في نمط الاستهلاك والمعيشة. لعدة عوامل لم يلجأ المجتمع إلى العمل الاحتجاجي العنيف، ولكن هذا لا يعني أن هذا النوع من العمل أصبح غائباً كلياً. الاعتماد على مخزون التأييد العام أسهم في السابق في تجنيب الأردن مصاعب الاحتجاج العنيف. ولكن التغير الذي طرأ على ثقة المواطنين بالحكومات المتعاقبة – وهي العمود الفقري للنظام السياسي- قد يؤثر على العلاقة بين المجتمع والحكومات، وبالتالي على النظام السياسي بشكل أشمل.

قد تكون اللامبالاة السياسية أحد مظاهر تراجع الثقة بين المواطن والحكومة. ربما تكون اللامبالاة أمراً طبيعياً في مجتمع يعيش في اقتصاد متحرك يولد الفرص باستمرار ويستوعب الإضافات الجديدة لسوق العمل بسلاسة. ولكن هذه الحال ليست حال الأردن. فحجم الداخلين لسوق العمل كل عام يفوق القدرة الاستيعابية لسوق العمل عدة مرات. وفي ظل انسداد الأفق أمام هؤلاء يصبحون هم أنفسهم مشكلة أمنية نائمة قد تؤدي - في حال ظهورها على السطح كقضية مطلبية منظمة - إلى زعزعة مستويات التأييد العام نتيجة لفشل السياسات التفصيلية في معالجة المشكلة. ما يعني ضعف استجابة النظام السياسي ككل لمطالب أساسية.

ربما تتأثر علاقة المواطن بالدولة بصفتها الموظف الأكبر والراعي الأكبر (الصحة والتعليم والأمن) بشكل سلبي نتيجة لعدم كفاية إنفاقها في هذه القطاعات الأساسية أو بعضها، وتدني دخول العاملين فيها بما لا يسمح لهم بالتكيف المناسب مع ارتفاع الأسعار.

لم تتغير آلية تشكيل الحكومات منذ بدأ الأردن مرحلة التحول الديمقراطي، ولم تتمكن هذه الآلية والحكومات المشكلة في إطارها من تخفيف العبء الاقتصادي عن كاهل الفئات الأكثر حاجة، على الرغم من التدخل الحكومي من خلال برامج متعددة. من جانب آخر، لم يكن تقييم أداء مجلس النواب ايجابياً من وجهة نظر الناخبين، ولم تتسع مساحات الحرية الصحفية كثيراً. الخلاصة هنا هي أن هذا "الترتيب السياسي"، لم يؤد إلى نتائج ايجابية كثيرة على صعيد السياسات التي تؤثر في حياة الناس، وبالتالي بدأ ضعف الأداء الحكومي يؤثر في النظام السياسي بشكل عام. ولأول مرة أيضاً، ترد مسألة الولاية العامة للحكومة كمشكلة في الأردن، وتظهر في الأسئلة المفتوحة بعد القضايا الاقتصادية من حيث أهميتها.

ربما يكمن الحل في إعادة النظر في هذا "الترتيب السياسي"، بحيث يتم إدخال التمثيل النسبي للنظام الانتخابي لإتاحة المجال أمام تنافس سياسي جاد على أسس برامجية وعلى صعيد الوطن. ويكون لمجلس النواب دور أكبر في تشكيل الحكومات على أساس حكومة نيابية ومعارضة نيابية، لكن بقانون انتخاب غير القانون الحالي. ربما يكون هذا بعيد المنال، ولكن لا بد أن نبدأ في مكان ما، ليتحمل المواطنون مسؤولية خيارتهم السياسية الانتخابية. قد نخطئ في المرة الأولى ولكن هذا يتقلص في ما بعد.

دعوة لاعادة النظر في “الترتيب السياسي”: دور الدولة في وقف تراجع الثقة
 
19-Jun-2008
 
العدد 31