العدد 31 - أردني
 

محمد عاكف

على الرغم من الشوط الذي قطعه الأردن على طريق اقامة الدولة الحديثة، فإن الاعتراف الذي تحظى به الأعراف العشائرية في المجتمع، يرسم علامة استفهام حول جدية الدولة في اقامة المؤسسات التي تجعل منها حقا دولة القانون.

وربما كان هذا هو السبب الذي جعل اصواتاً ترتفع بين حين وآخر مطالبة بإلغاء الأعراف العشائرية وتفعيل القوانين الناظمة لعلاقات الدولة بالمواطنين، والمواطنين فيما بينهم، فيما يطالب آخرون بالإبقاء على هذه القوانين، لأنها قد تحل قضايا تعجز عنها المحاكم المدنية، فليست الأعراف العشائرية شرا كلها كما يؤكدون.

فريق ثالث، يؤيد إلغاء الأعراف العشائرية ولكن تدريجيا، فهي ليست وليدة المجتمع الحديث، بل تضرب بجذورها في القدم قرونا طويلة، ما يجعل من الصعب إلغاؤها دفعة واحدة من دون آثار سلبية.

المفارقة، هي أن القوانين العشائرية قد ألغيت في البلاد قبل أكثر من ثلاثين عاما، ففي 1 -6- 1976 صدر قرار بإلغاء القوانين العشائرية رقم 34 في الأردن، الذي أصبح ساري المفعول اعتبارا من 16-6-1976. وقد ألغى هذا القانون قانون محاكم العشائر لسنة 1936، كما ألغى قانون تأسيس محكمة الاستئناف العشائرية لسنة 1936، وقانون الإشراف على البدو لسنة 1936، وهي ما تعرف بالقوانين العشائرية. وبموجب هذا القرار، ألغى وزير الداخلية آنذاك الإجراءات العشائرية من «عطوة و جاهة وكفالة ودخالة» وغير ذلك من إجراءات تتخذ في إطار القضاء العشائري.

رغم ذلك، ما زالت للأعراف العشائرية قوة ربما تفوق قوة القانون في بعض الأحيان، ما جعل أصواتا ترتفع مطالبة بإلغائها.

الأعراف العشائرية هي مجموعة من القوانين والأعراف المتداولة التي كان متعارفا عليها في الماضي، وما زالت حاضرة رغم عقود من المدنية وسلطة القانون.

محافظ العاصمة سعد الوادي المناصير لم يصل حد المطالبة بإلغاء الأعراف العشائرية، بل طالب بتنقيتها من بعض البنود الطارئة عليها، إن جاز التعبير، فهو يعارض صكوك الصلح التي يعتبرها مخالفة للوثيقة العشائرية، وذلك لتعارضها مع الدستور والقانون، ولمساسها بالحريات العامة وحقوق الإنسان. وخص المناصير بالذكر قضايا الدهس او المشاجرات التي قال إنها تعتبر خارج نطاق الوثيقة العشائرية.

القاضي فهد مقبول الغبين، وهو قاض عشائري منذ خمسة وثلاثين عاما، بيّن أن تخصصات قضاة العشائر مختلفة، فهناك قضاة الدم، وقضاة النساء، وقضاة الخيل، إضافة إلى قضاة السرقة أو الأمور المالية. وأضاف الغبين أن القضايا العشائرية قديمة قدم المعمورة فبداية «الدخالة» كانت في زمن لوط، حيث استجار بربه عندما طلب منه قومه عمل الفاحشة مع ضيوفه، وأول جلوة في التاريخ كانت جلوة موسى عليه السلام عندما قتل أحد أبناء قومه ثم جلا عند شعيب عليه السلام.

ولكن الغبين يأخذ على القضاء العشائري تنازل أهل المجني عليه عن حقوقهم المالية ففي حالة الوفاة تكتفي الأسرة بمبلغ أقصاه 10000 دينار بينما يقدر تعويض الاصابة بـ 5000.

كما يأخذ على الصلح العشائري أنه يخفف الإجراءات على الجاني في بعض الأحيان، ما يتيح المجال لتشجيع الطائشين والمتهورين على ارتكاب الحوادث مما سبب زيادة ملحوظة فيها أخيرا.

الغبين أشار إلى وجود بعض الحالات الشاذة، التي يقوم فيها بعض الأشخاص برمي انفسهم امام السيارات، مستغلين خوف السائق من إجراءات الدولة والإجراءات العشائرية على حد سواء. وقال الغبين إن هذه الممارسات غريبة على القضاء العشائري ولم تكن موجودة منذ زمن طويل.

برجس الحديد، النائب السابق في البرلمان الأردني، أوضح أن إخراج حوادث السير والدهس من الوثيقة العشائرية، وهو إجراء اتخذ مؤخرا، يرجع الى كونها قضايا فنية لم تكن موجودة أيام الأعراف العشائرية، في حين أن العرف العشائري في المشاجرات يساعد في حقن الدماء.

ويرى الحديد أنه ليس هناك حالياً وجود لقضاء عشائري، مشيرا إلى أن ما تبقى من القضاء العشائري يختص بنواحي القتل وهتك العرض و تقطيع الوجه، و قال إن العطوة في قضايا القتل مثلا، هي عبارة عن هدنة بين أهل المجني وأهل الجاني، خوفا من ردة فعل أهل المجني عليه، واعتبر أن من الخطأ الكبير القول إن المجني عليه ذهب ضحية فنجان قهوة . وأوضح أن الحكم في هذه القضايا يبقى للقضاء المدني في حين أن العرف العشائري لم تعد له اي كلمة.

سياسي أردني روى للسّجل حادثة جرت في إحدى الدول الأوروبية، حيث تشاجر طالبان أردنيان، فما كان من احدهما الا ان رفع دعوى في المحكمة على الآخر، غير أن طلبة أردنيين آخرين تدخلوا وأصلحوا بين الطالبين المتشاجرين قبل أن يحين موعد جلسة الاستماع في المحكمة. وحين جاء الموعد، توجه المشتكي الى القاضي، وأخبره انه لم يعد متمسكا بالشكوى حيث انه تصالح مع خصمه.

يقول السياسي إن القاضي نظر الى الطالبين متعجبا وقال: «هذه المرة هي الثالثة التي يحدث فيها معي مثل هذا الموقف مع طلبة أردنيين، فهم يرفعون الشكوى ثم يتنازلون عنها قبل موعد المحاكمة.» وسأل «ماذا تفعلون بالضبط؟» فبدأ الطالب يشرح له أسس القضاء العشائري المعمول به في الأردن، فأعجب القاضي بالمسألة من باب أن الصلح يخفف العبء عن المحاكم التي يكون عليها أحيانا البت في كل صغيرة و كبيرة.

المحامي محمد أبو حسان، عضو محكمتي التمييز و العدل العليا سابقا، قال إنه، رغم وجود سلطة القانون ورغم لجوء المواطنين الى المحاكم النظامية، فان بعض الناس يتجهون الى القضاء العشائري ظانين انها الوسيلة الفضلى لإنهاء المنازعات الهامة و الكبيرة.

وأوضح أبو حسان أن «القوانين الحديثة حلت مكان العادات القضائية بين العشائر الأردنية، وهو ما منع محاكم العشائر من إصدار قرارات بسوق البنات من قبيل الدية على سبيل المثال، فيما ألغى القانون الجديد محاكم العشائرية ومنع تطبيق أعراف البدو على قضاياهم، وأحل مكانها المحاكم و القوانين الأردنية.»

وهو يرى أن وضع القانون المشار إليه قد وضع حدا للعزلة التي كان يعيشها البدو آنذاك، حيث أعلن أن جميع الأردنيين سواء أمام القضاء المدني، وأنه أزال الفجوة التي كانت قائمة بين البدو من ناحية وبين سكان القرى والمدن من ناحية أخرى، إذ وضع القانون المدني والمحاكم النظامية نهاية للمؤسسة القضائية البدوية وأعرافها ومحاكمها وقضاتها.

القضاء العشائري كان قد ألغي قبل ذلك في سورية و العراق العام 1958 و قبل ذلك ايضا كان قد الغي في السعودية مع ظهور الحركة الوهابية.

ولكن القوانين العشائرية ما تزال موجودة في مناطق الصحارى الإفريقية و بادية الشام التي تقع بين الأردن و السعودية ، اضافة الى الدول ضعيفة السلطة و القانون المدني كالسودان و افغانستان .

كما يوجد نظام الصلحات في إسرائيل التي أسست جمعيات رسمية عملها شبيه بعمل الجاهة و تختص بالمحاكم الجزائية. و تقوم الجمعيات بإصلاح طرفي القضية؛ الجاني والمجني عليه، وتكتب تقريرا للمحكمة التي تصدر حكما بناء على هذا التقرير.

وبين أبو حسان أن أميركا بدأت تطبق نظاما يسمى «القضاء الخاص»، وهو قانون قريب من القضاء العشائري، و يطبق في القضايا الحقوقية من بيع و شراء و قضايا المعاملات، و في هذا القانون يرشح الخصمان طرفا ثالثا ليحكم بينهما، قد يكون محاميا قديما او رجل اعمال ذا سمعة طيبة، وذلك مثل القضاء العشائري حيث ينتخب طرفا النزاع رجلا حكيما وعادلا ليحكم بينهما .

في القضاء الخاص الأميركي يكون حكم القاضي المنفرد في القضايا الحقوقية قطعيا وغير قابل للطعن .

أبو حسان أوضح أن أميركا تحاول دائما دراسة القوانين البدائية، في حين أن هذا القانون مطبق في اكثر من نصف عدد الولايات الأميركية.

المحامي ميخائيل زريقات يؤكد أنه ضد العشائرية في حوداث السير إجمالا، والدهس تحديدا؛ فالمتسبب بالحادث يكون مجبرا على جلب صك صلح عشائري لإسقاط الحق الخاص عنه، إضافة إلى أن الجاني يستمر في دفع فاتورة العلاج للمصاب إلى حين حصوله على تقرير طبي قطعي يفيد بشفائه تماما.

زريقات طالب بتطبيق النظام الكروكي (وهو نظام مطبق في الدول المتقدمة)، ويقضي بتحميل شركات التأمين المسؤولية الكاملة عن حوادث السير بحيث تكون بديلة عن الإجراءات العشائرية، وهنا تبدأ شركات التأمين بمقاضاة المتسبب بالحادث. وطالب زريقات بجعل المسؤولية مشتركة بين سائق السيارة والمواطن المتعرض للدهس في حال قطع شخص الشارع من مكان ممنوع، وفي هذه الحالة تدفع شركة التأمين نصف المبلغ فيما يتحمل المواطن نصف المبلغ الآخر.

هاني الدحلة، رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، قال إن الأعراف العشائرية والقضاء العشائري قد يكونان مفيدين في بعض الأحيان، بحيث يأخذ الشخص حقه من دون اللجوء إلى المحاكم النظامية، وذلك من خلال الجاهات والعطوات والصلحات، ولكن الأثر السلبي لها يكمن في أنها قوانين غير حضارية وليست متفقة مع التشريعات المعمول بها داخل المملكة.

وفيما شدّد الدحلة على ضرورة توقف هذه العادات والتقاليد، فإنه اقترح وضع برامج حكومية للتوعية، بحيث تمنع الأعراف العشائرية بالتدريج، حيث لا يمكن منعها مرة واحدة، ذلك أنها عادات ممتدة لآلاف السنوات، ويحتاج إنهاؤها إلى جهد وفير وطاقة كبيرة.

يشار إلى أن القضاء العسكري كان يلجأ إلى القانون والعرف العشائري في حال وقوع أي أحداث قد تتسبب في قتل أو إيذاء أحد أفراد المؤسسة العسكرية، و هو ما سبب إرباكا في التخصصات والاختصاصات لكل منها.

الأعراف العشائرية: إرث قديم يعيق بناء مجتمع حديث
 
19-Jun-2008
 
العدد 31