العدد 31 - أردني
 

جمانة غنيمات

يشكل العام 1989 مرحلة مفصلية في تاريخ الحكومات، وعلى نحو يمكن معه الحديث عما قبل وبعد هذا العام. الحكومات التي تشكلت قبل نهاية عقد الثمانينيات في مرحلة الأحكام العرفية، اتسمت بسهولة وسرعة تكوينها وطول عمرها نسبيا.

تلك المرحلة اتسمت بغياب الحياة البرلمانية والحزبية، وضعف السلطة الرابعة (الإعلام)، مما جعلها خارج المساءلة والشفافية.

بعد 1989 شهدت البلاد مرحلة الحكومات التي جاءت مع حقبة الانفراج السياسي، وتميزت بقصر أعمارها وازدياد عددها، كما امتازت بتوزير أشخاص استكمالا لسياسات استرضائية اتبعت في مرحلة سابقة.

الاختلاف في الخصائص الشخصية و"الفكرية" لرؤساء الحكومات الذين جمعتهم حقبة واحدة، انعكس في تقلب بعض السياسات الداخلية ، وانسحب على انجاز كل حكومة وعلى المحصلة العامة للإنجازات.

بهذا فإن الدرك الذي انحدرت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية في الأردن، جاء ليعكس حالة ضعف تراكمية تكرّست منذ سنوات، بسبب آليات تشكيل الحكومات المتعاقبة وغياب المؤسسية والمساءلة. هذه المعادلة تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب تداخل الصلاحيات وضبابية المرجعيات في إصدار القرارات، حسبما يرى مسؤولون سابقون.

سياسيا، ما زالت النخب تتحدث بأمل عن إصلاحات حقيقية، بما في ذلك سن قانون انتخابات عصري، قانون اجتماعات عامة، في وقت تراجع فيه مستوى الحريّات الإعلامية. يتزامن ذلك مع ضعف فرص إزالة أشكال التمييز ،مع وجود مجلس نوّاب فرض عليه واقعه الانهماك في عقد صفقات خدمية مع الحكومات لقواعدهم الشعبية، على حساب الصورة الكليّة والإصلاح الشامل.

على المستوى الاقتصادي فرغم أن الحكومات سرعّت هذا المسار ،ووقعت اتفاقيات اقليمية ودولية، فإنها دفعت المملكة للانخراط بوتيرة متسارعة في اقتصاد السوق وإخضاع كل شيء للعرض والطلب، ما عمّق الفجوة الطبقية ووسع دائرة الفقر. لذلك ظلّت نتائج البرامج الاقتصادية متواضعة على مستوى اقتصاد "الماكرو". فاقم ذلك ضعف الرقابة وغياب الرؤى الإصلاحية بعيدة المدى.

فمن ناحية، لم تسهم السياسات الاقتصادية في إعادة توزيع مكتسبات التنمية بعدالة، بل على العكس فقد اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء ليصبح 10 بالمئة من الأغنياء يتمتعون ب 30 من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تقتصر حصة أفقر 10 بالمئة على 3 بالمئة من الناتج الإجمالي.

كذلك، ساهمت البرامج بتغيير وضع الطبقة الوسطى، بعد تزايد الفجوة بين دخل الفرد ونفقاته لتصل 1330 دينارا سنويا، في وقت ظلت معدلات الفقر والبطالة تراوح مكانها عند نسب 14.3 و13.5 بالمئة، لتنزلق أسر كثيرة تحت خط الفقر نتيجة معدلات التضخم الخيالية ،التي بلغت في أول خمسة اشهر من العام الجاري 12.7 بالمئة.

المدافعون عن انجازات الحكومات المتعاقبة يحاججون بتطور البنى التحتية، ارتفاع معدلات عدد المتعلمين، ويعتبرون وجود 40 جامعة من البراهين على نجاح البرامج، الأمر الذي يعتبره الناقدون تطوراً طبيعياً لأي دولة ينبغي القياس عليه، كون الأرقام هي الحكم الأخير على الإنجازات من وجهة نظرهم.

بلغة الأرقام تتلخص انجازات الحكومات بارتفاع عجز الموازنة، ليصل مع نهاية العام الجاري بليون دينار. اتساع عجز الميزان التجاري بنسبة 40 بالمئة. ارتفاع حجم المديونية الذي بلع 7.2 مليار دينار قبل توقيع اتفاقية مبادلة الدين مع نادي باريس.

نادي "الباشوات" اتسع في السنوات الأخيرة، بعد أن كان مقتصراً على عدد محدود يتداورون هذا الموقع إبان فترة الأحكام العرفية ،حين كانت الدولة تواجه أخطارا خارجية وتنعم بأمن داخلي.

الاختلاف الكبير في آليات ومعايير اختيار رؤساء الحكومات ومواصفاتهم، بدا جليا بعد العام1999.

المحلل السياسي هاني الحوراني يرى أن حرب 1967 أحدثت تغييراً جوهرياً في دور رؤساء الوزراء في دول المواجهة مع إسرائيل. "رسم السياسات الخارجية صار يرتبط برأس الدولة"، في هذه البلدان، بحسب الحوراني. واستمرت هذه الحال حتى عقد السبعينيات في الأردن، بقدوم وصفي التل الذي "لعب دورا مهما في ترسيخ سيادة الدولة بعد المواجهات مع منظمة التحرير".

كان رؤساء الحكومات من الرعيل الأول شركاء في صنع القرار، لما تمتعوا به من حدة الذهن والرؤية. يستذكر البعض أن مضر بدران لعب دوراً هاماً عام 1978 ،في إبعاد الأردن عن اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل

النصح كان حاضرا في علاقة الرئيس بالملك، زيد الرفاعي المخضرم وعبد الحميد شرف صاحب الرؤية الليبرالية، كانا شريكين في صناعة وصياغة السياسات. بحلول العام 1989، دشن الأردن حقبة انفراج سياسي وفتح حوارات مع أحزاب- ظلت ثلاثة عقود ونصف العقد تعمل تحت الأرض باستثناء الإخوان المسلمين- وتعمق التفاعل مع النقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني، لتأتي حكومة مضر بدران وتشرك- في سابقة أردنية- خمسة من الإخوان المسلمين في تشكيلتها.

التغيّر في أدوار الحكومات بدأ في البروز مع أواسط عقد التسعينيات، لتصبح الحكومات قصيرة الأمد، يعهد لها بادارة وتنفيذ برامج وليس وضع سياسات واستراتيجيات. أداء هؤلاء الرؤساء يرتبط بآلية اختيارهم.

يرى الحوراني أن ضعف الحكومات يعود، إلى "الضمور في عدد رجالات الدولة مقارنة بالسابق، انحسار رؤساء الحكومات في حلقة ضيقة"، ومتوسط أعمار الرؤساء.

فيما يرى مسؤولون سابقون أن انتقاء رؤساء حكومات بسقوف متدنية وتحويلهم إلى مدراء ،يعكس رغبة مراكز قوى في تحييد ولاية السلطة التنفيذية لمصلحة "حكومات" تصول وتجول في البلاد بعيدا عن المسطرة الدستورية.

آلية تشكيلة الحكومات ينشط فيها أكثر من عامل وأكثر من اعتبار، سواء من مراكز صنع القرار والتأثير او اعتبارات جهوية وعائلية .معايير تشكيلها هذه كانت أحد أسباب ضعفها المزمن. تعرضت حكومة عدنان بدران لأزمة بعد تشكيلها مباشرة ،كونها لا تضم في فريقها وزيراً من الجنوب ، وليس لأسباب تتعلق ببرنامجها أو كفاءة بعض أعضائها.

انحسار أدوار هذه الحكومات يتبدى في ضعف معرفتها بتفاصيل الأمور، رؤساء حكومات منهم عبد الرؤوف الروابدة وفايز الطراونة عرفوا بانتهاء أعمار حكوماتهم من الصحافة.

"كل ما سبق أوجد حكومات لا تملك برامج وخططاً تراكمية تسعى لتنفيذها"، كما يقول احد الوزراء السابقين. يتزامن ذلك مع" تراجع الدور الرقابي لمجلس الأمة وتقهقر الحريات الصحفية وضعف دور الإعلام" بحسب المسؤول السابق.

المثير في أدوار الحكومات أن الحكومات كانت تسير بالمسارين السياسي والاقتصادي بالتوازي، لكن الحال لم يلبث أن اختلف لتنشط الحكومات في المسار الاقتصادي وتدخل اقتصاد السوق المفتوح من أوسع أبوابه وتوقع اتفاقيات متعددة مع أطراف إقليمية ودولية.

التسريع الواضح في خطوات المملكة لدخول عالم الاقتصاد الحر والعالمي لم يأت بنتائج ايجابية على الاقتصاد الوطني ومستويات معيشة الأردنيين، اذ ما زالت نسب الفقر والبطالة تراوح مكانها عند معدل 14.3 و 13.2 بالمئة، كما معدلات مداخيل القوى العاملة التي قوامها مليون وربع نسمة.

فيما بقي الملف السياسي إرثاً تتناقله الحكومات. حتى الآن لم تتمكن الحكومات من وضع قانون انتخابي عصري، نتيجة سياسات الاسترضاء التي اتبعتها مع النواب من خلال عقد صفقات في جوهرها خدمية مطلبية.

الحقبة الجديدة للحكومات بدأت بحكومة عبد الرؤوف الروابدة الذي جاء في فترة صاخبة وتم خلالها إبعاد ممثلي حركة حماس الى سورية خالد مشعل وموسى ابو مرزوق ليخسر الأردن ورقة رابحة تبقيه حاضراً في المشهد الاقليمي والدولي.

ليأتي بعدة علي أبو الراغب ويسجل رقما قياسا في طول عمر حكومته (حكوماته المعدلة) التي أصدر خلال سنواتها الثلاث 210 قوانين مؤقتة ما زالت آثارها باقية الى الآن، بقاء ابو الراغب يعزوه مقربون منه إلى تحالفه مع مدير دائرة المخابرات آنذاك سعد خير.

نادي الباشوات يضم محظوظين قلما يعرف أحد لماذا صعدوا ولماذا غادروا الدوار الرابع.لم يشكل احد منهم حزبا او تياراً سياسياً ، وغالبا ما تدور بينهم خلافات شخصية، رغم خبرات يتمتع بها عدد منهم .

تشكو الحكومات من ضعف آلية تشكيلها، في غياب مشاورات ملزمة للرئيس المكلف مع البرلمان ومع قوى حزبية ونقابية .حتى خبرات رؤساء الحكومات السابقة لا تتم الاستعانة بها .ذلك يؤدي بالرئيس المكلف لاختيار فريقه من "دائرة معارفه" والمحيطين به وكفى الله المؤمنين عناء التدقيق والاختيار. ومع الابتعاد عن تشكيل حكومات ذات منظور سياسي وإن ضمت تكنوقراط في صفوفها، فإن الحكومات تحمل هوية واسم رئيسها، وتتشكل دون امتلاك قاعدة سياسية واجتماعية لها. يتفاقم الأمر بعدئذ مع العزوف عن مأسسة العلاقات الحكومية ،مع القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذات التمثيل .ولعل ذلك ما يفسر الضعف العام للحياة السياسية وعدم تجددها ، وارتباطها بذوات لا ببرامج ورؤى ذات امتداد اجتماعي.

تطوير آلية تشكيلها وتحقيق إنجازات ملموسة يضمنان الثقة بها: الحكومات تركة تثقل كاهل الأردنيين
 
19-Jun-2008
 
العدد 31