العدد 28 - ثقافي
 

عواد علي

تكشف التجربة التاريخية للمجتمعات البشرية،أن عناصر عديدةً تجمع بين ثلاثية (الغزاة، والطغاة، والغلاة)، رغم تباين أهدافها، أبرزها: استعمال القوة، والعنف البدني (العدوان)، الهيمنة، والإكراه، والابتزاز، والتهديد، والحث على الإذعان، وإثارة الرعب والرهبة، وانتهاك القواعد الأساسية للسلوك الإنساني.

ثمة مرجعيات نظرية فلسفية، سياسية، ودينية عديدة تستند إليها هذه الثلاثية المقيتة، في العصر الحديث، لتسويغ أفعالها، منها: نظرية نيتشة المتعلقة بـ «إرادة القوة» التي زعم فيها أن الإرادة الوحيدة الصحيحة إنما هي إرادة القوة، التي وحدها تقرر الحق وتحرك الأفراد والتاريخ، والصراعات العسكرية، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، والثورات الأخلاقية والجمالية، والعلاقات بين البشر. وهناك الفلسفة البراغماتية، التي تدعو أيضاً إلى سيادة القوة، وتركز على مدى «الفائدة» العملية المباشرة للأفكار؛ فالفكرة تكون «صحيحة» إذا كانت فقط «نافعة»، وتكون على العكس «زائفة» إذا لم يكن لها مردود نفعي مباشر. وقد وجدت الفاشية والنازية ضالتهما في هذه الفلسفة، إلى جانب نظرية نيتشة.

الغريب أن النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، الذي حارب النازية والفاشية، نهل من هذه الفلسفة، في ممارسته السياسية المشوهة للماركسية؛ فها هو لينين يقول: «إن موت ثلاثة أرباع الشعب الروسي ليس بشيء، المهم أن يصبح الربع الباقي منهم شيوعيين» وقد أرسل بالفعل الملايين إلى الموت خلال تربعه على عرش السلطة، كما كشفت قراءة خطاباته الأصلية، التي أميط اللثام عنها مؤخراً ضمن الملفات السرية للحكم السوفييتي، كيف كانت حياة الناس تُنهى في كلمات وجمل قصيرة. وكان ستالين يرى أن موت الإنسان قد يكون تراجيدياً، لكن موت الملايين مسألة إحصائية. أما المرجعية الثالثة، فهي منظومة الأيديولوجيات المذهبية والسياسية المتطرفة. وهي منظومة مغلقة على فهم دوغمائي للدين، أو على رؤية سياسية رجعية مغلّفة بالدين والخرافة، تعمل على غسل منظم لأدمغة الناس، فتجعلهم ميالين إلى التعصب والشدة والقسوة في أحكامهم وتصرفاتهم، رافضين التعاطي مع مَن يختلف عنهم من أبناءِِ مجتمعهم وجنسهم، ومستعدين للتضحية بأنفسهم وبسواهم في عمليات انتحارية بشعة. تقوم هذه المنظومة الأيديولوجية على مقت الآخر وتكفيره، ومعاداة الحياة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتبيح العنف المادي أو المعنوي سواء من خلال قمع الخصم، أو إقصائه، أو قتله. وغالباً ما يحمل الفعل الإرهابي، حينما يقع على شخص ما أو جماعة ما، رسالةً إلى ضحايا محتملين آخرين. يوقع الرعب في نفوسهم، ويثير التساؤل عن ماهية الضحية التالية.

شكلت ثلاثية (الغزاة، والطغاة، والغلاة) مادةً لأغلب أنواع الأدب والفن، الى جانب تحليلات العلوم الإنسانية المختلفة لها. بين تلك الأنواع الأدبية والفنية، كانت للمسرح حصة كبيرة منذ بواكيره في الحضارات الغربية والشرقية القديمة، فالنص الدرامي الأسطوري السومري (رثاء أور) يحكي عن فاجعة خراب أور عقب الغزو العيلامي لها. ثاني نص مسرحي مما بقي من نصوص شيخ الكتاب المسرحيين اليوناني أسخيلوس، وهو (الفُرس) عام 472 ق.م، كان عن حرب (الماراثون) بين اليونان والفُرس، وكذلك ثلاثيته (الأوريستيا: أغاممنون، حاملات القرابين، والصافحات) التي تدور حول غزو اليونان لمملكة طروادة. وتناول بعده عملية الغزو هذه، وغيرها من الغزوات والحروب، وحماقات الطغاة والمستبدين كل من سوفوكليس ويوربيديس، واريستوفان، وميناندر، والكتاب الرومان. وتدور نصوص الثلاثة للكاتب الهندي كاليداسا في القرن الرابع الميلادي) (مالافيكا، وجانيمترا، ،فكرامرفاسيا، وساكنتالا) حول الحرب والحب والأسطورة. والمعروف أن معظم تراجيديات شكسبير تجري أحداثها في أجواء الحرب، وتكشف عن الروح الدموية ونزعة الطغيان، وإرادة القوة.

في المسرح المعاصر كانت أحداث الحروب والغزوات القديمة والحديثة، وجرائم النازية والفاشية، وأطماع زعمائهما الطغاة في احتلال العالم واستعباد شعوبه، وحرب فيتنام وهزيمة الغزاة الأميركان مادةً، أو خلفيةً لعشرات النصوص المسرحية في العالم، وبخاصة نصوص برتولد بريخت، ،سارتر، وشون أوكيزي، وأروين شو، وأرثرميلر، وهوارد فاست، وبيتر بروك، وميغان تيري، جان جيرودو.

وبسبب ما عاناه العرب من غزو الدول الغربية لبلدانهم، ومن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأجزاء أخرى من أراضيهم، ومن حكامهم الطغاة، ومن إرهاب الغلاة والمتطرفين في مجتمعاتهم، فقد أنتج كُتّابهم المسرحيون عشرات النصوص التي تدور أحداثها حول تلك الثلاثية بوصفها ظاهرة مترابطة في نتائجها وآثارها المدمرة على حياتهم ومستقبلهم وتطلعهم إلى الحرية. كان توفيق الحكيم من أوائل الكتّاب الذين تناولوا موضوع الغزو في مسرحيته (الضيف الثقيل) عام 1919، وهى مسرحية مخطوطة تناوىء الاحتلال الإنجليزي الذي حلّ على مصر ضيفاً ثقيلاً، لم يدعه أحد، وظل جاثماً على صدرها. ولعل من أبرز النصوص التي قدّمت مقاربات درامية لتسليط الضوء على سلوك الغزاة والمحتلين، وإدانة الحكام العرب الطغاة الذين فرطوا بالأرض، على نحو رمزي أو مباشر، منذ منتصف القرن الماضي هي: "سليمان الحلبي"، و"النار والزيتون" لأفريد فرج، و"حفلة سمر من أجل 5 حزيران" و"الاغتصاب" لسعد الله ونوس، و"محاكمة الرجل الذي لم يحارب" لممدوح عدوان، و"الغزاة" لعلي الشوك، و"بلدي يا بلدي" لرشاد رشدي، و"أيها المشاهد جد عنواناً لهذه المسرحية" و"هي حرب طروادة أخرى" لجليل القيسي، و"السيل" لعلي كنعان، وطالطوف" لفؤاد التكرلي، و"المسامير" لسعد الدين وهبة، و"احتفال ليلي خاص بدرسدن" لمصطفى الحلاج، إضافةً إلى نصوص محمد الماغوط عن حرب تشرين، وكاتب ياسين عن حرب الجزائر، وأعمال محمد القري والمهدي المنيعي عن الاحتلال الفرنسي للمغرب.

ألهمت الكوارث المريرة التي عاشها العالم العربي منذ بدء الألفية الثالثة بسبب استمرار الحكام الطغاة في سياسة القمع والاضطهاد، وازدياد وتيرة التطرف الديني ونزوعه إلى استخدام القوة والعنف والإرهاب في العديد من الدول العربية، وعودة الغزاة الى المنطقة من جديد كما حدث في العراق.. ألهمت هذه الكوارث العديد من الكتاب والمخرجين المسرحيين العرب في إنتاج تجارب مسرحية (نصوص وعروض) تغوص في بواطنها، وتضيء زواياها المعتمة، وتكشف عن جذورها ودلالاتها وتأثيراتها السياسية والاجتماعية والنفسية. من هذه النصوص والعروض: («العرس الوحشي» لفلاح شاكر، «حمام بغدادي» و «نساء في الحرب» لجواد الأسدي، «خمسون» لجليلة بكار وفاضل الجعايبي، «رهائن»، لليلى طوبال وعز الدين قنون، «حديقة الموتى» لإبراهيم جابر إبراهيم، «حصان الدم» لجبار جودي، «أمراء الجحيم» لعبد الرزاق الربيعي، «خريف الجنرالات" لإبراهيم حنون، "حريق البنفس") لحيدر منعثر، طاللعب في الدماغ" لخالد الصاوي، "طار الحمام" لعزام أبو السعود، "حذر تجوال" لمهند هادي، «ع الحاجز» لخالد عليان، و«حنين البحر» لرائد غزالة.

المسرح العربي أمام ثلاثية: الغزاة، الطغاة، والغلاة
 
29-May-2008
 
العدد 28