العدد 27 - ثقافي
 

جهاد هديب

إذ يتم في الموسيقى الإلكترونية استنباط أو توليد الصوت الموسيقى إلكترونياً، فإن اختلافها عن سواها من أنواع الموسيقى يتحدد في طبيعة خامتها الصوتية. غير أن هذا التوصيف للموسيقى الإلكترونية، التي جرى تقديم نماذج منها بمشاركة مصرية في الدورة الأولى لمهرجان "100 موسيقى إليكترونية حية" الأسبوع الماضي في عمان ، تجاوز هذا التوصيف إلى ما هو أبعد ، إذ بدت الموسيقى تجريباً على الأصوات يقوم العازف باختباره في الأستوديو ثم يجري تقديمه حيّاً مع ترك بعض المساحة للارتجال.

يصف الموسيقي محمود رفعت، مؤسس "100 موسيقى إليكترونية حية" في نسخته المصرية موسيقاه" الموسيقى الإلكترونية التي أقدمها هي تجريب في الأشكال الموسيقية المألوفة بشكل يتناسب مع أفكار هذه الموسيقى، التي لا تاريخ طويلاً لها في الثقافة العربية أسوة بسواها، وكذلك الأداء الخاص بها".

ورأى رفعت، قبل أن تعلن ألما خصاونة، بدء الفعاليات وقبل أن يقف الرجل أمام الجمهور ويقدم موسيقاه بطريقته، أن بوسع هذه الموسيقى "أن تمنح مستمعها بالفعل أفكاراً ومشاعر مختلفة عما تمنحه الأشكال الأخرى من الموسيقى لا سيما أنها تخاطب الإحساس مباشرة".

وقال:"نحن أفراد مستقلون لا ننتمي لأي مدرسة، ولما في موسيقانا من تجريب ندرك أن عملنا سيبقى مهمشاً ومن الصعب أن يجتذب جمهوراً واسعاً بين يوم وليلة".

وهو ما تتفق معه، علا الخالدي، مديرة غاليري مكان، إحدى المؤسسات التي نظمت المهرجان، لكنها في الوقت نفسه تقول: "إن مكان مساحة بديلة من الممكن عبرها تقديم التجارب النافرة والجديدة والمختلفة التي يصعب أن تجد منبراً لطرح مثل هذا النوع من الموسيقى، وذلك عبر الشراكة مع مؤسسات أخرى معنية محلياً وعربياً". وهو ما أكدته بدورها لما حزبون من Orange Red بالقول: سنستمر في تقديم المختلف والمبتكر من الابداع سواء أحبه الجمهور أم لا".

بدا ذلك غريباً في أول الأمر، فالموسيقى الإلكترونية تكسر ما هو كلاسيكي، وسائد في إنتاج الموسيقى وتلقيها الحيّ والمباشر على خشبة مسرح، إنها تكسير بالمطلق لكل ما هو متعارف عليه.

واجه محمود رفعت الجمهور الشاب والمتنوع في المسرح الصيفي في حديقة المتحف الوطني للفنون الجميلة، حيث ما زالت الأعمال الخزفية للإسباني العظيم بيكاسو تُعرض للجمهور، وقد انحنى على طاولة خشبية سوداء عليها جهاز كمبيوتر ثم قام بتشغيل برنامج خاص في الجهاز، فأدار عبره المسيقى التي أنجزها في أستوديو، بحيث سمح لأصوات تصدر في المجال والمحيط بأن تؤثر على النتاج الموسيقي الحيّ ،على نحو أتاح له ضبط هذا التأثير بوصف ذلك نوعاً من الارتجال الموسيقي المدروس ويخص الموسيقى الإلكترونية، وكما يحدث في الجاز مثلاً.

عن هذه الموسيقى التي جرى تقديمها في المهرجان الذي استمر من الخامسة مساء وحتى قرابة منتصف الليل، دفعة واحدة، فقد صدحت موسيقى تفاعلية حيّة قد تبدو مزعجة ربما لأنها غير مألوفة أو لأنها غالباً ما كانت أصوات وذبذبات ولم تتكون من الجملة الموسيقية على ما هو متعارف عليه، بل تكاد لولا ما هو قريب منها إلى "السماعي"، تكون موسيقى بلا إيقاع، الأمر الذي تبدو معه غير قابلة للتصديق!. بل إن ما هو قريب من الموسيقى الإلكترونية إلى "السماعي" أكثر قِصَراً من المألوف، وأشد غرابة لجهة طبيعة الانسجام والتناغم بين الوحدات الأولى للصوت. في حين أن الإصغاء يمكّن المرء من ملاحظة الفروقات في الأداء ومزاج الموسيقى بين عازف وآخر.

أمر آخر قد يتجاوز المتخيل، فهل من موسيقى دون أصابع لعازف؟. لكن الأمر قد يبدو عادياً فلا تقاليد موسيقية في بلادنا، لكن ما فعله العازفان المنفردان القادمان من مصر: محمود رفعت، ورمزي لينر، هو أن كليهما أدارا فأرة جهاز الكمبيوتر باتجهات بدت عشوائية للناظر إليها وبدون انفعالات تقريباً ،مع أن الموسيقى كانت ترقِّص حين تنتظم في إيقاعات متتالية وتخفّ حدّة تدخل الأصوات في الواقع والمحيط ،إلى حدّ أن من الممكن للمرء أن يترك الجهاز وحده يقوم بإنجاز هذا الترقيص، فيفعل إلى حدّ أنه أثناء العزف يمكن للمرء أن يشعل سيجارة، وهذا ما فعله العازف رمزي لينر في أثناء العزف على طريقته.

بالطبع ظلّ الكمبيوتر حاضراً ويمارس الدور ذاته، ولما رافقه العازفون بارتجالاتهم على الآلات المصاحبة بوصفهم فرقة "بكيا" فبدت أكثر دينامية وقربا من الجمهور الذي وصفه العازف، محمود والي، من الفرقة: "متحمس لسماع جديد يأتي بجديد " هو الجديد "الذي قد تأثر بالدرجة الأولى بالموسيقى الغربية بكل أنواعها الأقرب إلى روح الموسيقى الإلكترونية".

أما مشاركة الفرقتين الأردنيتين (الدوار التاسع) وCow Boys From Jordan فجاءت متأخرة، لأن طبيعة العرض لدى الفرقة الأخيرة تضمن عرضاً مرافقاً للفيديو قدمه الموسيقي يوسف قعوار، بصحبة عازفين آخرين والذي أوضح أنه لا يستهويه "العزف من مدارس موسيقية قديمة بل يرتاح لهذا النوع من الموسيقى ما يدفعه إلى التأليف، سواء أكان أسهل أم أصعب من سواه" مؤكداً أن المستقبل لهذا النوع لأنه بات موجوداً باحتراف".

ما إن انتهى محمود رفعت، الذي يصح وصفه بأنه ناشط موسيقي في هذا الحقل مثلما نصف شخصاً بأنه ناشط في مجال حقوق الإنسان، حتى بادرته بسؤال: إلى أي حدّ تتحكم في إنتاج موسيقى تريدها أنت تبعاً لما تصنع؟، فقال: بالطبع كما أشاء، إنني أضع خطوطاً عريضة للموسيقى التي سأقدمها وأترك مساحة للارتجال في العرض الحيّ باختيار وإرادة، بحيث تخاطب مشاعر الجمهور مباشرة وبحيث يكون التعبير الموسيقي ردود أفعال وأفكار ومشاعر معينة خاصة بي".

عن ردود الأفعال هذه بوصفها موسيقى، قال بدر أحد المتابعين للمهرجان عن إحساسه بها: "في البداية تملكتني على نحو سلبي وتمنيت لو يتوقف، لاحقاً أحسست بشيء آخر ربما من العسير وصفه لكن هذا النوع من الموسيقى يحتاج إلى طرائق جديدة في استيعابه والتفاعل معه". لكن رفيقتيه الفرنسيتين جولييت، وراشيل، بدا الأمر بالنسبة لهما عادياً تماماً، فاتفقتا على أن الموسيقى كانت جميلة ولافتة للانتباه في مستواها المتطور، لجهة الأداء والارتجال الذي فيها".

قلت لمحمود رفعت أيضاً: أنت لم تكن تعزف. قال: لا، كنت أعزف والفرق أنه في العزف على الآلة الموسيقية الكلاسيكية يكون هناك توقع من الجمهور للموسيقى بسبب طبيعة الأداء الجسدي على الخشبة، لكن هنا لا احتكاك مباشراً سوى بين الموسيقى والجمهور بهذا يبدو العازف تقريباً خارج هذه المعادلة، رغم إن جهاز الكمبيوتر هنا هو آلة تماماً مثل سواها من الأنواع الموسيقية الأخرى".

لكن، هل يمكن للموسيقى الإلكترونية أن تكون بديلا عن الأنواع الأخرى من الموسيقى؟. "بالطبع لا" قال المؤلف الموسيقي والعازف يعقوب أبو غوش، العضو البارز في فرقة زمن الزعتر،: " صحيح أن هذه الموسيقى تقدم إحساساً وفكرة مختلفين عما يمكن أن تنتجه الآلات الأخرى، لكنها لا تستطيع أن تحتل مكانها، ببساطة لوجود العنصر البشري الذي يعبر عن نفسه من خلال العزف على المنصة، الأمر الذي من غير الممكن تحققه بواسطة هذه الموسيقى". بالمقابل، كانت نبرة الصوت حاسمة لما سألت محمود رفعت: هل تتعامل مع نفسك بوصفك مؤلفاً موسيقياً بالمعنى المتعارف عليه؟. قال: "قطعاً، نعم:.

تبعاً لما جرى تقديمه في هذا الماراثون القصير، فإن الموسيقى الإلكترونية تبقى نوعاً من الموسيقى وانتهى الأمر، سواء أكنت تسمعها وحدك في البيت أم في مكان مفتوح فضاؤه على الاحتمالات والتأويلات. لكن هل تشير الاستجابات الجسدية التي تصدر عن الأفراد أن بوسع هذه الموسيقى منح المتلقي مشاعر وأفكاراً بالفعل؟. الأرجح أن الإجابة تتعلق بكل فرد على حدة.

مساحة للتجريب تكسر التقاليد الموسيقية كلها
 
22-May-2008
 
العدد 27