العدد 26 - أردني
 

محمود الريماوي وحسين أبو رمّان

ينشط الأردن بعد ستين عاماً على النكبة،في إرساء حل دولتين فلسطينية وإسرائيلية. النشاط السياسي الأردني قابل للتزخيم بربط العلاقات الأردنية الإسرائيلية بتطورات جهود التسوية (وجهود تعطيلها). نشأ هذا النشاط الأردني نتيجة الإدراك بأن المصلحة في سلام عادل هي مصلحة أردنية عليا وداخلية،رغم إنجاز المعاهدة الثنائية مع تل ابيب.

بؤس المسار السياسي للتسوية حتى تاريخه، يفاقم في الوعي العام مظالم النكبة وحجم التبعات الملقاة على عاتق الأردن ودول أخرى. يسعى الإسرائيليون خلال ذلك للزعم بأنهم كسبوا حرباً كبرى باستيلائهم على أرض فلسطين وتقويض وجود شعبها، وأن" من الطبيعي" كما يردد شيمون بيريز مثلاً أن يكون هناك خاسرون. الخسارة وفق هذا المنظور الملتوي تشمل الأردنيين والعرب لا الفلسطينيين فحسب. كثيرون يشايعون بيريز يريدون تكريس الظلم وشرعنته وإعفاء الدولة الصهيونية من التبعات.

شعب فلسطين لم يمت. منذ أكثر من اربعة عقود استعاد الفلسطينيون صفتهم كشعب لا مجموعات لاجئين. إيمان العرب ثابت جيلاً بعد جيل، مع معسكر العدالة في العالم بالحق الفلسطيني.

فاعلية الأداء السياسي أقل بكثير من حجم هذا الإيمان. لكن الصراع التاريخي لم يتوقف ويمكن رؤيته يدور ما زال عند نقطة البدايات. شرعية الدولة الإسرائيلية مثلومة لدى مئات الملايين من البشر.عدد اليهود خارج إسرائيل يفوق عدد من هم داخلها. الفلسطينيون على أرضهم في الضفة وغزة ووراء الخط الاخضر ليسوا أقلية: تعدادهم هناك أربعة ملايين ونصف المليون نسمة ويفوق عدد الفلسطينيين في الخارج.معجزة البقاء والتماس الفاعلية بما لا يحصى من مظاهر، يطعن بصورة الدولة الاستيطانية الكولونيالية كلية القدرات.إثم النشأة والصيرورة يلابس ويطارد الدولة الإسرائيلية، العاجزة عن التحول الى "دولة عادية".

يتحمل الأردن تبعات النكبة، لكن من "مكر التاريخ " أن هذا البلد الصغير تطور على ايقاع هذا الحدث التاريخي، وفي شواهد عدة تحولت الغصة الى فرصة واستفاد الفلسطينيون حين تعربوا وتأردنوا منذ 58 عاماً.

انعكست تداعيات النكبة على الأردن بما يفوق تداعيات هذا الزلزال، على بلدان مجاورة أخرى. التقارب الزمني بين وقوع نكبة 1948، وبين التطورات السياسية الداخلية في الأردن آنذاك وبالأخص استقلال البلاد قبل عامين على ذلك التاريخ، وتدفق اللاجئين على شرق الأردن القليل في عدد سكانه، جعل من النكبة حدثاً أردنياً. ذلك الحدث "توج" تواصلاً تاريخياً بين فلسطين والأردن المتجاورين والخاضعين للانتداب البريطاني،دون حدود بينهما ومع عملة موحدة آنذاك (الجنيه الفلسطيني). ومع وجود وافدين من فلسطين الى شرق الأردن منذ الثلاثينات ( تجار وموظفين،وعائلات معروفة.. في السلط مثلا) يقابله وجود أردني في الضفة الغربية (ملاكو أراض).

وصول اللاجئين آنذاك لم يضغط على البنى التحتية التي كانت في حالة أولية، بل أسهم في بناء هذه البنى. أدى التدفق لرفد الحياة الناشئة بغالبية المهن الفنية الأساسية والخدمات، وإطلاق حياة اقتصادية نشطة خاصة في العاصمة والزرقاء. وجود قيادة بريطانية للجيش العربي آنذاك أشاع الانطباع بأن المعركة واحدة ومتواصلة مع بريطانيا، التي لعبت دور القابلة و المتواطىء عديم الشرف، في إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وفي التحكم بقيادة الجيش العربي.

لم يمض سوى عامين حتى نشأت وحدة الضفتين،باعتراضات وممانعات ضعيفة هنا وهناك وقبول شعبي واسع على الضفتين.وكنصفين دفعت الظروف كلاً منهما للبحث عن نصفه الآخر.لم تتم الوحدة وفق آليات ديمقراطية ودستورية يُعتد بها،ذلك ان الضفة الغربية كانت تشهد فراغاً كيانياً وتفتقد لمؤسسات.المعارضون السياسيون هنا وهناك كانوا من المتحمسين للوحدة التي أتى بها نظام يعارضونه !.سرعان ما توحدت الأحزاب والنقابات والجمعيات. باستثناء نقابة واحدة فقد جرى تأسيس سائر النقابات المهنية والاتحاد العام لنقابات العمال منذ العام 1952.وتحولت الضفة الغربية الى ما يشبه عاصمة اقتصادية وسياحية وإعلامية للمملكة،الى جانب عمان العاصمة السياسية والإدارية والأمنية. الفترة الديمقراطية الزاهية في حياة الأردن أواسط الخمسينيات هي ذاتها حقبة الوحدة. الدستور الأردني الذي يزهو به جميع الأردنيين وضع خلال فترة الوحدة العام 1952.

المنعرجات التي عبرتها القضية الفلسطينية وهزيمة،1967وتحولات المجتمع الأردني بعد وقوع حوادث ايلول (شابت مواقف حركة فتح غربة فعلية عن خصوصية المجتمع الأردني لنشأ ة قياداتها خارج الضفتين)، ثم إخفاقات التسوية والصعوبات الاقتصادية، أدت وبأشكال متفاوتة الى إشكاليات الهوية في الأردن.

حل هذه الإشكالية كما تدل خبرة العقود الأربعة الماضية، منوط بتقدم الأردن على طريق الديمقراطية والعصرنة وإرساء دولة الحق والقانون بسائر أركانها ومظاهرها. والقناعة بأن غالبية دول ومجتمعات العالم ومنها الأردن، نشأت وتبلورت تاريخياً في خضم الصراعات والحروب والهجرات، مع ما ترتب على ذلك من تشكيلات اجتماعية ومن حقوق مدنية وسياسية للمواطنين بصرف النظر عن منابتهم وطوائفهم. وأن النزاعات مثل نزاع ايلول يقتضي استخلاص الدروس الصائبة منها بتشريع وإرساء الوحدة الوطنية، لا التمترس خلف الحساسيات ورفض إزالة أسبابها.الحروب الأهلية في أميركا وغيرها من دول العالم دفعت نحو إشاعة أجواء دستورية وديمقراطية ومدنية،كأفضل رد واحتواء لتلك النزاعات ومقدماتها ونتائجها. لا البناء على انقسام طارىءوتكريسه، أو الاستسلام للشرخ وإدامته.

أدى تهميش مكون اساسي في المجتمع عن القطاع الحكومي في بعض ما أدى اليه، الى انخراط متزايد لأردنيين من أصل فلسطيني بعد الانفراج الديمقراطي العام 1989 في الحركة الاسلامية بكثافة.. للاستظلال بمظلة الهوية الاسلامية للجميع، نجمت عن ذلك تداعيات سياسية على الدولة والمجتمع. وراجت في الاثناء فزاعات مثل "الوطن البديل" بدل الإعلاء من شأن مصالح وطنية عليا يحتكم اليها الجميع، وبدل سن قانون انتخاب عصري يعتمد القوائم النسبية كمكون رئيسي للقانون، ينهي الحساسيات الاجتماعية ويضمن الاندماج والانصهار والتعدد السياسي والفكري.

مع ما تقدم فإن حل إشكالية الهوية مرهون بالتقدم على طريق التسوية، وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في الضفة الغربية وغزة،على ترابط وثيق متفق عليه مع الأردن، بما يعيد التواصل المفتوح ويحد من ضغط الكثافة السكانية للمخيمات ويوفر فرص استثمار في الضفة الغربية.ذلك يتطلب حزماً أردنياً مع دولة الاحتلال التي تمعن في التنصل من موجبات التسوية، وسلب المزيد من الأرض والمياه، وذلك بربط العلاقات الأردنية الإسرائيلية بتطورات التسوية على الأرض ووقف الفصل غير الموضوعي بين الأمرين، وهو ما تستغله تل ابيب لتدمير السلام الموعود،وتشديد الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الأردن.

فرخت النكبة نكبات أخرى منها على الاخص هزيمة العام 1967.الردود متواصلة على هذه التداعيات السوداء. إذا لم تتقدم الأطراف المعتدلة لانتزاع تسوية عادلة تستحق مسماها وترتضيها الأجيال، فإن القوى الأصولية تبادر لملء الفراغ وتحويل الصراع السياسي الى صراع ديني ينعكس سلباً على المجتمعات.

مقاومة المد الأصولي تصبح بلا معنى ودون أثر ايجابي على الحياة السياسية، دون تغيير البيئة التي ازدهرت فيها الظاهرة، وهي بيئة تغول واستشرى فيها الاحتلال وسدت آفاق التسوية منذ مطلع العام 2000 واستمر التطابق الأميركي مع تل ابيب.

لا يمتلك الأردن وحده العمل في هذا الاتجاه، يمكنه المبادرة اليه واستثمار القبول والثقة به في الدوائر الغربية،لكسر الجمود والدفع باتجاه وقف مفاعيل النكبة وما تلاها.

الأردن في قلب النكبة ودوره حاسم في وقف مفاعيلها: الديمقراطية وتسوية عادلة
 
15-May-2008
 
العدد 26