العدد 26 - أردني
 

السجل- نهاد الجريري

أم رزق: كفر عانة – قضاء يافا

"كنت واقفة على البيدر لما مرقت دبابة يهودية، واحد من الثوار صوّب ع الدبابة بس إجته قذيفة في صدره ومات قدام عيني."

كان هذا آخر عهد الحاجة رسمية أم رزق ذات الثمانين عاما ونيّف، بقرية كفر عانة من قضاء يافا بفلسطين، التي غادرتها وأهلها في عام النكبة.

تروي أم رزق كيف كان الثوار يتسلقون أشجار البرتقال متوارين عن أعين اليهود، لكن الدبابات كانت "ترش الشجر رش"، حتى تتراكم الجثث في الطريق، وكيف كان أهالي القرية يتسللون ليلا لدفن الجثث في "المساقي" - وهي أشبه بمغارات مخصصة لدفن الموتى. وتتابع: "كنا نبيع الذهب عشان نشتري فشك، بس البارودة ما بتقدر توقف قدام الدبابة." في ظل هذا البطش، آثر زوج الحاجة رسمية وأبوها أن يغادرا كفر عانة، مؤقتا، حتى تهدأ الأمور. وهكذا حملت أم رزق أولادها الأربعة: رزق، فخرية، فوزية، ووصفية ذات الأربعة أعوام، التي كانت أكبرهم. "كنت أحمل بنت ع كتفي، وأبو رزق يحمل البنت الثانية، وكان الولاد الثنين الواعين يزقطوا في ذيل ثوبي."

خرجت أم رزق وأطفالها وبقية أهل القرية إلى مدينة اللد القريبة، وأمضوا الليلة في السهل تحت السماء العارية. وهي ما زالت تذكر كيف كان رزق يبكي ويواري وجهه في ثوبها وكأنه يستنجد بها من "الطخ، الطخ". وتذكر أن رجلا أحضر معه خروفا كان ذبحه للتو. فأشار على الجميع أن يجلسوا تحت شجرة زيتون ويشووا الخروف ليأكلوه قبل أن يفسد. لم تكن نيتهم أن يطيلوا البقاء. لكن الرحيل استمر. "لحقونا اليهود ع اللد"، تقول أم رزق. فلم يكن أمامهم إلا الجبل حيث لجأوا إلى منطقة "عَابود" القريبة من دير غسانة، قضاء رام الله. هناك، سمح لهم «المسيحيّة» بالمكوث في الدير. "كان فيه أكثر من 100 عيلة ساكنين في الكنيسة، ما كان يفصل بين العيلة والثانية إلا بطانية أو خرقة نعلقها من الجال هاظ للجال هاظ." وتتابع أن أهالي عابود قالوا لهم "هذي السنة إلكو يا اللاجئين." فسمحوا لهم بأخذ حاجتهم من الزيتون والخضار دون مقابل. لكن هذا بالكاد سد الرمق، ما اضطر أم رزق إلى العمل. "بقيت أشتغل في الدور، أزبل الطابون، وأخبز الخبزات، وكانت ست البيت تقول لي خذي أكمن رغيف خبز وشوية زيت وطعمي ولادك." تروي أم رزق كيف كانت تغلي الماء وتهرس فيه حبات من التمر حتى تعوض عن الشاي والسكر. "بقيت أقول للولاد إنو هاظا شاي وإنو زاكي لما يغطوا فيه الخبزة."

في عابود، وضعت أم رزق طفلة لكنها لم تعمّر طويلا. "من لما ولدت وهي مريضة، عاشت 3 تشهر وتوفت .. ما كان فيه حكما .. وين بدي أوديها؟"

أمضت أم رزق وعائلتها عامين في عابود. "سمعنا إنو اليهود وصلوا على طراف عابود"، فلجأت العائلة مرة أخرى إلى أريحا وأقامت في مخيم نويعمة. "عشنا في خيمة، بعدين شوي شوي بلشنا نبني شوية طوب من الطين في ذيال الخيمة وسقفناها بالبوص والحصر." في نويعمة، كانت أم رزق تعمل في بيارات أريحا وتأخذ حاجتها وأهلها من الخضار والفاكهة. تذكر أن صاحب البيارة طردها في إحدى المرات واتهمها بأنها تسرق الموز. "فتحت الكيس وكل إللي كان فيه شوية عشب حشيتهن من شان أطعمي الأرانب إللي كنت أربيهن وأبيعهن."

وكانت الوكالة توزع على كل نفر أوقية من الطحين كل شهر. "وشو بدها تسوي الأوقية؟" فكانت أم رزق تذهب إلى "الشريعة" – نهر الأردن – لجلب الحطب وبيعه للأفران في رام الله. "كنت أبيع حزمة الحطب أجيبها ع راسي من الشريعة بـ10 قروش، وشو الـ10 قروش بدها تجيب؟ رطلين طحين." رطلا الطحين كانا يصنعان 10 أرغفة من الخبز. " كل اثنين من الولاد كانوا يتشاركوا في رغيف طول النهار. شو بدي أسوّي. مفش أكل. مفش مصاري." في هذه الأثناء، كان أبو رزق –رحمه الله- يعمل في مشروع "العلمي" القريب. كان يتقاضي في اليوم 10 أو 20 قرشا في أحسن الأحوال، ما كان يعني مزيدا من أرغفة الخبز! لكن ذلك لم يكن ليخفف وطأة المكان والزمان على أم رزق. في أريحا، توفيت ثلاثة من بناتها: فخرية وفوزية وسميرة بسبب الحصبة. "سميرة كانت عزيزة على قلبي .. كبرت .. صار عمرها 3 سنوات ... كانت حلوة .. بيظة، بيظة .. وعيونها زرق .. زي عيون عمّاتها." سميرة أبكت أم رزق ...

بعد لحظات استدركت "ع اليوم لو متنا وما طلعنا، إنذلينا"، هي "ابنة العز" التي كانت تملك في كفر عانة بيارة "إلها باب يفتح ع بلدنا وباب ع يافا من كُبرها." وتستذكر أيام "البلاد" .. كيف كانت أول امرأة في البلد تلبس "الفتيك" وتلف شعرها في "برنيطة" حتى لا يتعرف عليها الرجال وهي تعمل في البيارة ليلا. وكيف كانت تملك ثورا اسمه "إشناف" يكسب مباريات "صراع الثيران" في البلدة. وكيف كان صاحب "القهوة" يرش الماء على الأرض كلما مرت "البنات" وهن يحملن الماء من العين حتى لا يغبّر التراب أذيال أثوابهن. وكيف كان زوجها يذهب إلى سينما الحمرا في يافا ليستمع إلى عبد الوهاب.

دعتنا أم رزق التي تسكن غرفة في مخيم الوحدات حولتها إلى دكان تبيع فيه المصاص والعلكة وهي تغني العتابا: "فلسطين الحبيبة رجال ما إلها .. تتكسّم ع دول العرب ورجال ملها ... بطلب من عالي السما تروحنا ع وطنا .. رجايي فيك يا عالي السما."

**

أم محمد: عسلين – قضاء القدس

كان عمر أم محمد 18 عاما عندما كان اليهود - الذين تمركزوا في "قبانية" عرتوف القريبة – يشنون عليهم الغارة تلو الأخرى. وتقول "طلعوا علينا ع البلد وبلشوا طخ .. وفي ليلة، هجموا علينا من ناحية الشارع – باب الواد- وإحنا شردنا غربا .. وبتنا في سيسين ع البيدر." عاد أهل عسلين في الصباح. لكن غارات اليهود لم تتوقف. وبدأ الأهالي يستشعرون الخطر الداهم، فأخذوا بتخزين بعض المؤن في بلدة بيت نتيف القريبة إلى أن حانت ساعة الصفر. تروي أم محمد أن والدها قرر الرحيل بعد ورود أنباء عن مجزرة دير ياسين وبعد أن وقعت معركة في بيت محسير المجاورة راح ضحيتها كثيرون.

قريبها محمد حسين ذهب إلى بيت محسير "ع شان يقاتل اليهود بس انقتل و خلّف وراه 3 ولاد وبنت." الرحيل لم يكن ليدوم. "حط أبوي الكواشين في علبة ودفنها تحت الأرض وخزّن الكرسنة والعدس والشعير في الناموس –المغارة- على أساس إنّا غايبين يومين وراجعين." كان الرحيل الأول إلى بساتين الزيتون في ديرابان. ومن هناك، انتقلت عائلة أم محمد إلى بيت نتيف. وهي تروي أن والدتها ظلت تبكي وهي تشرف على أطلال عسلين وتنادي "هييه يا عسلين، هييه".

تنقلت عائلة أم محمد من بيت نتيف إلى علاّر ومنها إلى بيت ساحور. حيث "سكنا في المُغر وكنا نطحن القمح اللي جبناه من عسلين ونخبز ونوكل."

بعد عامين، انتقلت العائلة إلى مخيم النويعمة في أريحا. لكن مع قدوم الصيف الحارق، قرر الصليب الأحمر نقل المخيم إلى أطراف عناتا – بين القدس ورام الله – ومرة أخرى مع قدوم الشتاء البارد عادوا إلى أريحا ولكن في مخيم عين السلطان. "هناك دقينا لبن طينة وبنينا سقيفة." وهناك عملت العائلة في "الحصيدة" فكانوا يذهبون إلى العمل بعيدا...في حقول القمح في الحصن، السلط وطبربور.

**

أبو إبراهيم:

صفريّة

قضاء يافا

رحلة اللجوء أخذت أبا إبراهيم – ذا الثلاثة عشر عاما- من قريته صفرية إلى شبتين في رام الله مرورا بدير أبو مشعل. ويروي أن اليهود اعتادوا مهاجمة صفرية، خاصة في الليل. ولم يكن في البلدة من يدافع عنها. وبعد أنباء مجزرة دير ياسين، قرر الأهالي اللجوء إلى قرية قريبة بانتظار الجيوش العربية.

يذكر أبو إبراهيم أن والده قرر البقاء أسبوعين في صفرية حتى يستكمل حصاد السمسم، ويؤمن بيتهم الممتد على مساحة نصف دونم والمؤلف من "عقدين، وطابون ومتبنة، وزرايب للبقر والحلال". ويتابع أنه كان من المحظوظين، إذ تمكن من حجز مكان لعائلته المكونة من 7 أشخاص في "تريلّة" إلى جانب 7 عائلات أخرى كانوا في طريقهم إلى دير أبو مشعل غرب رام الله. ومن هناك قطعوا الجبال باتجاه شبتين. ويتابع "تعودنا ع الألم حتى بطلنا نحس برجلينا." في شبتين، كانت الأيام الأولى قاسية على أبو إبراهيم وإخوته. "أبوي كان لسا ما إجاش وما كان معنا مصاري أو إشي نوكلو، وكان الزغار بيعيطو من الجوع." وهكذا ظل الصغار بانتظار ما يجلبه لهم أخوهم الأكبر ليلا بعد عمله في حقول شبتين. يقول أبو إبراهيم إن أشد الأيام قسوة كانت في شبتين. "ما كناش عارفين شو بدنا نسوي، وعشنا في خيمة من الخيش تحت أشجار الزيتون بعد ما كنا عايشين في أرض يرمح فيها الخيّال."

**

أبو غاندي:

جسر المجامع

قضاء بيسان

يذكر أبو غاندي الذي كان في الحادية عشرة أيام النكبة، أن "أكابر" القرية اجتمعوا في إحدى ليالي شهر أيار عام 1948 وقرروا النزوح عنها فورا من دون كثير من الاستعداد، "على أساس أن الجيوش العربية جاية تحرر فلسطين،" يقول أبو غاندي. وكان القرار بتأمين النساء والأطفال أولا في حين "بقي والدي، ولكنه سرعان ما لحقنا بعد 4 أيام بعد أن يئس من قدوم العرب." ويذكر أن نهر الأردن كان ذلك الشهر شديد الفيضان - "سنتها إجا الشتا متأخر." فكان لا بد من البحث عن "مخاضة" لعبور النهر. والمخاضة هي منطقة يقل فيها منسوب الماء. وهكذا عبر أبو غاندي وأخوه الوحيد وأخواته الخمس ووالدته وجدته نهر الأردن ليلا عند مخاضة العبد سليمان. ويروي أن بعض الناس أوشكوا على الغرق في مياه النهر بسبب الذعر الشديد من ناحية، والظلام الدامس من ناحية أخرى، وارتفاع منسوب النهر من ناحية ثالثة.

الليلة الأولى التي أمضتها عائلة أبو غاندي في اللجوء كانت في أرض الجلدة إلى الغرب من الشونة: "بالرغم من التعب، لم يستطع أحد النوم بسبب الخوف والذعر. فقط الأطفال الصغار ناموا لأنهم ما كانوا عارفين شو بيصير." في الصباح، توجهت العائلة إلى مضارب ساري طحيمر الذي آواهم في بيت شعر. وظلت العائلة تتنقل في بيوت الشعر حتى استقر بهم المطاف في المجنونة على ضفاف شرق الأردن. ويقول "الفترة كانت باعتقادنا مؤقتة لن تطول شهر زمان، إجا الجيش العراقي وصارت مناوشات فكان فيه أمل بالرجوع، لكن ظلينا ننتظر .. حتى إعلان الهدنة تلاشى الأمل بالعودة."

شهادات المحنة والأمل كما يرويها جيل النكبة
 
15-May-2008
 
العدد 26