العدد 26 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

يجتمع فيه المؤرخ المفكر والباحث الأكاديمي، والحكيم الذي لا تهدأ خواطره.

رأى محمد عدنان البخيت النور في ماحص العام 1941. تحدر من عائلة مزارعين وتعين عليه في مقتبل صباه، أن يروي البساتين ويشارك في قطاف الخضراوات وأوراق التبغ.

"والدي كان رجلاً مستنيراً، فهو أول من اشترى راديو يعمل على البطارية، وكثيرا ما أم دارنا أصدقاء الوالد ليستمعوا إلى إذاعة الجيش، أو ليقرأ عليهم بضعة مقالات من جريدة الجهاد".

في مدرسة صويلح الإعدادية، التي كان يذهب اليها مشياً على الأقدام، تأثر بأستاذه الشركسي، أحمد شاهنكري، وتعلّم منه أصول اللغة العربية.

انتقاله الى كلية الحسين في عمان، كان بمثابة رحلة سفر. وقد أقام في منزل عائلة عمه في المحطة حتى أنهى الثانوية.

محاولة الاعتداء على طائرة الملك الراحل الحسين، أثناء تحليقها في الأجواء السورية، كانت الدافع وراء تظاهرة طلابية عفوية توجهت إلى قصر رغدان واخترقت صفوف الحرس بهدف لقاء الملك والاطمئنان على سلامته، رفض الطلاب المغادرة إلى أن ظهر الحسين على الشرفة وتحدث إليهم.

محطة حياته التالية كانت الجامعة الأميركية في بيروت، التي ابتعث إليها بعد منافسة حادة بين الطلاب من الضفتين، ويذكر للشيخ محمد أمين الشنقيطي، وزير التربية "أنه أوفده ورفض أن يوفد ابنه".

لم يكن يعرف اللغة الإنجليزية، بدرجة تسمح له بالحديث بها، ولم يلبث في السنة الاخيرة من دراسته أن صار أستاذاً محاضراً وباللغة الإنجليزية.

في ست الدنيا، تفتحت ملكاته الفكرية والذهنية، وبدأت علاقته بالصحافة، فأصدر مجلة اسمها "البتراء" كان يوزعها على الطلبة الأردنيين وشعارها: علم، وخلق، وجرأة. ونظراً لضيق ذات اليد، فقد كان مسؤولاً عن سكن طلاب يتقاضى عنه أجراً يسمح له بشراء وجبات تسد رمقه.

أنهى البكالوريوس ومن ثم الماجستير بإشراف المفكر وأحد أقطاب القوميين العرب، قسطنطين زريق.

جادل البخيت أستاذه زريق بأن "الأردنيين يرضعون العروبة مع اللبانة، وتاريخهم عريق." ما دفع الأخير لسؤاله: "أنتم لديكم تاريخ؟".

عبارة زريق الأخيرة كانت الدافع وراء تغيير البخيت رسالته للماجستير من "الأباضية في المغرب العربي" إلى "تاريخ الكرك في العهد المملوكي" .

ومن شغفه بتاريخ الأردن، أنه وجه بعدئذ أبحاثه وتحقيقاته، ورسائل طلابه في الماجستير والدكتوراه إلى البحث فيه.

لم ينتم في بيروت إلى أي حزب رغم أنه كان مطلعاً على الأحزاب والتكوينات الفكرية، ومن آرائه التي أثارت لغطاً كبيراً في تلك الفترة أنه : "لو كان الأمر بيدي لبنيت سوراً واقياً حول إسرائيل لا لأحميها بل لنحمي أنفسنا منها". ويؤمن "بأن مواجهة إسرائيل يجب أن تبنى على خطة طويلة المدى".

عاد الى الوطن العام 1967، وغادره في بعثة دراسية الى لندن بعد الحرب التي يصفها أنها "مصيبة جررنا إليها بسبب الأوهام وجهل الشارع". وكان عين في العام نفسه في الجامعة الأردنية، ولكن ارتؤي إبعاده وتوجيهه لدراسة تخصص صعب "بلكي يفشل". والقصة أنه أبدى رأياً في صلاح الدين الأيوبي لم يرق للكثيرين، وهاجمه النائب يوسف العظم في البرلمان، وتطورت القضية إلى حد التفكير بإقصائه.

أنهى الدكتوراه من جامعة لندن للدراسات الشرقية، والإفريقية بأطروحة حملت عنوان "إمارة دمشق في القرن السادس عشر"، تطلبت أن يمضي نحو سنة على ضفاف بحر مرمرة وشواطئ النيل، منكباً على المخطوطات والكتب القديمة، ومعظمها باللغة العثمانية التي تعلمها من أجل هذه الغاية.

ومن يومها أدرك أهمية كل ما يخص فلسطين من أثر مكتوب، فشرع بتصويره، وأودعه مركز المخطوطات في الجامعة الأردنية الذي عمل على تأسيسه. يرى أستاذ جامعي «أن بصمات البخيت ما زالت قوية، والمركز ربما يعد الأهم عند العرب في هذا الشأن».

يقر البخيت بالدور الذي لعبه رئيس الجامعة آنذاك الدكتور عبد السلام المجالي في تدريبه «كان يعاملني كعسكري برتبة صغيرة ويقول لي بدي أسويك زلمة تفهم».

ويستذكر «موقف الملك الراحل الحسين الذي كان يمنع أياً كان من التدخل في شؤون الجامعة، ويؤكد على استقلاليتها، قائلا لا أكسر قانونا مهرته بتوقيعي».

ويشير الى أن «مدير مخابرات سابق جاء لتسجيل ابنه وفوجئ أنه عومل كأي مواطن آخر».

مناصب أكاديمية كثيرة تبوأها وصولاً إلى رئاسته لجامعة مؤتة، ومن ثم أسس وترأس جامعة آل البيت الى أن أقصي عنها بطلب من رئيس الوزراء السابق، علي أبو الراغب على خلفية مقالة كتبها "الأمر الذي دعا كثيرين للإعجاب بأبي الراغب لأنه فصلني" بحسب ما يقول.

يعمل حالياً رئيساً للجنة تاريخ بلاد الشام، وهو متفرغ كلياً للتأليف والنشر، ويكتب مقالة أسبوعية في صحيفة «الرياض» السعودية.

اقتصر عمله على سلك التعليم، وبسخرية لاذعة يقول: «ماتت كل عماتي وهن حزينات،لأنهن لم يرينني في سيارة نمرة حكومية ومعي شرطي حراسة».

يصفه مقرب منه بأن من عيوبه جرأته، ويتهم بأنه «يزيدها أحياناً حبتين».

يراه آخر «نشيطاً جداً، أول من يحضر الى العمل ولا يغادر إلا بعد منتصف الليل، ذو عقلية إدارية رفيعة، غير أن بعض من عمل معه يرونه متجبراً وأحياناً ديكتاتوراً».

«أنا حازم ولا أعتذر عن ذلك، لكن هناك من ينظر لذلك باعتباره شكلاً من أشكال التجبر، لا أعتذر عن ذلك، لأني لا أطالبهم إلا بما أطالب به نفسي». يشرح البخيت، ويضيف:.«أخاف على المستقبل، إسرائيل الآن أخطر مما كانت من قبل، ولا قيمة لنا في غياب القدس، أدعو إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية».

له آراء مخالفة لما هو سائد، منها أنه يشجع النسل، والتكاثر، ويعتقد أن «الرحم اللبناني، والفلسطيني هما مصدر قوتنا».

..يمضي البخيت حالياً أيامه في منزله بإسكان الجامعة الأردنية بالقراءة والبحث، ويحلم بإنشاء مؤسسة ثقافية غير نفعية باسم والده وفي بيته القديم في ماحص، حيث يحب أن يمشي، ويسترخي «فوق الشجرات.. تحت الشجرات» المهم أن لايزعجه أحد.

محمد عدنان البخيت: المفكر حين لا تستوعبه السياسة
 
15-May-2008
 
العدد 26