العدد 4 - ثقافي
 

تمتد ما بيننا وبين “دار الحكمة” وبغداد المأمون «قرابة» عشرة قرون مروراً برفاعة الطهطاوي و”مدرسة الألسن” في أواسط القرن التاسع عشر، وبأمثال عادل زعيتر وطه حسين وأحمد لطفي السيد وعشرات آخرين بعد ذلك بنحو سبعة عقود، وصولاً إلى مطالع الألفية الثالثة. وعلى الرغم من ذلك، فإننا ما زلنا ننعى حال حركة النقل والترجمة والتعريب، وقد نتحسر على حال التبادل الثقافي والبحث العلمي عموماً في العالم العربي.

ربما كان ثمة توكيد لأبعاد هذه القضية في تقارير “التنمية الإنسانية العربية” الأربعة، في استعراضها جوانبَ القصور الثلاثةَ الأساسية التي تعيق مسيرة التنمية الشاملة المستدامة في العالم العربي؛ في مجالات الحرية، والمعرفة، والنهوض بمكانة المرأة. وبالإضافة إلى حالة الركود والفوضى، فإن المستوى العلمي لتلك الأعمال المترجمة، كما يؤكد التقرير الثالث عن “مجتمع المعرفة”، يتسم بنقصٍ بَيّن في ترجمة كتب مرجعية أساسية في الفلسفة والأدب والاجتماع وعلوم أخرى، علاوة على شيوع القرصنة والسطو والانتحال في الكتب المترجمة. أما العنصر الأهم الذي يتحكم في جدوى هذه الأنشطة، فهو، على ما يشير التقرير، غياب سياسات واضحة ومخطط لها تنظم عملية اختيار الكتب المترجمة، بحيث تلبي حاجات البحث العلمي في الوطن العربي، وتصبح عنصراً فاعلاً في نهضة معرفية عربية.

بل إن قضية الترجمة والتعريب انتقلت في الآونة الأخيرة إلى الصعيد القومي؛ إذ ينص “إعلان الرياض” الصادر عن مؤتمر القمة العربية الذي عقد في أواخر آذار/مارس 2007، على “تدشين حركة ترجمة واسعة من اللغة العربية وإليها، وتعزيز حضور اللغة العربية في جميع الميادين، بما في ذلك في وسائل الاتصال والإعلام والإنترنت وفي مجالات العلوم والتقنية”.

ولا عَجَب، والحال هذه، أن نرى محمد بن راشد آل مكتوم، في معرض إعلانه قيام المؤسسة المسماة باسمه للتنمية المعرفية، وهو يتحدى دور النشر والترجمة في العالم العربي في نشر ألف كتاب جديد في السنة الواحدة، في إطار برنامج يضم أكثر من خمس وعشرين مبادرة لتطوير قاعدة معرفية حيّة، عن طريق حشد العقول والطاقات العربية، وتشجيع الإبداع والابتكار، والاستثمار في البنى الأساسية العلمية والأكاديمية والبحثية اللازمة.

ولا ينبغي، في هذا السياق، إنكار ما تنجزه هيئات رسمية معنية بمسألة الترجمة والتعريب، ومنها، مع اختلاف التسميات، المجالس الوطنية للآداب والفنون والعلوم في كل من مصر، وسوريا، والكويت، والأردن، وقطر، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في الجامعة العربية، وبعض مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، ولا سيما تلك المعنية بالمعرفة والتعريب في مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، مثل المنظمة العربية للترجمة في بيروت، ومؤسسة ترجمان في الأردن.

كذلك لا تفوتنا الإشارة إلى سلسلة من المبادرات العربية التي برزت خلال السنوات الأخيرة في ميدان الترجمة، على الصعيدين الوطني والقومي. فقد أعلن في وقت سابق عن جوائز “زايد”، و»خادم الحرمين»، و»مؤسسة شومان» للكتب المترجمة. وكان آخر هذه المبادرات هو مشروع “كلمة” الذي يدعمه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان لترجمة مائة كتاب إلى العربية عن اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وحتى اللاتينية.

ومع الإقرار بأهمية هذه المبادرات، وبالدور الحيوي للهيئات التي تعمل بالتعريب وما يتصل به من أنشطة، فإن حركة الترجمة ما زالت قاصرة، بل بعيدة عن أهدافها المأمولة، وهي نقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية والعلمية التي يُفترض فيها تعريف النخب التربوية والأوساط الطلابية الجامعية العربية، وقادة الرأي، بالإنتاج الفكري الجديد والمهم خارج العالم العربي. كما يفترض في تلك المُتَرجَمات أن تستهدف، وفق خطة منهجية، الأعمال والمؤلفات الأجنبية المَعَْلَمية الجديدة أو ذات القيمة المتجددة، في مجالات الدراسات الإنسانية والعلمية، وفي العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والثقافية والفنية كافة، وعن اللغات الأصلية قدر المستطاع، مع الحصول، حسب الأصول، على حقوق الترجمة والنشر اللازمة.

ولعل الخروج من هذه الأزمة لا يكون إلا ببناء نموذج جديد وصارم وممأسس للترجمة في العالم العربي، يتجسد في استراتيجية ذات أهداف واضحة، ومشروعات وبرامج دقيقة محكمة، وآجال وآليات إنجاز محددة، تستفيد مما اعتور الاستراتيجيات السابقة من أخطاء أو فشل. ومن المؤكد أن مثل هذا النموذج المقترح لن يستهدف الدمج أو التوحيد بين الهيئات العربية القائمة، بل سيحاول تأطيرها والتنسيق بينها وتشبيك بعضها مع بعض، وربما الأهم من ذلك، تقديم الدعم لها قياساً على الإنجاز الفعلي الكفء المبرمج، وفق خطة واضحة من جانب هذه المؤسسات الراهنة أو المقبلة.

الترجمة والفوضى غير الخلاقة
 
29-Nov-2007
 
العدد 4