العدد 1 - أردني
 

لم تعش بلادنا، بعد، حياة سياسية سليمة وصحية. وإذا كانت التجارب التاريخية التي مررنا بها على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، هي التي أربكت ولادة الحياة السياسية الطبــيعية المتوافقة مع "الديمقراطية" التي نعلن تبنيها، فإن ثمـة أيضاً أخطاء صنعناها بأنفسنا منذ "استئناف" الحياة الـــديمقراطية عام 1989، وصنعها، على وجه الخصوص، الوافدون الجدد على العمل السياسي، وعلى رأسهم من يمكن تسميتهم "الأحزاب الجديدة"، فهؤلاء كان يفترض أن يكونوا أكثر حيوية في المجال الديمقراطي، لأنهم غير متأثرين مباشرة بتجارب "العقود الصعبة" في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ولم يكونوا (بصفتهم السياسية الجديدة) طرفاً فيها.

من الوجهة التاريخية، يمكن اعتبار العام 1989 حداً فاصلاً في مسيرة الحياة الحزبية الأردنية، كما في مسيرة الحياة السياسية برمتها في البلاد. فالأحزاب السياسية التي تأسست بعد ذلك العام، وظهرت إلى العلن بعد إقرار قانون الأحزاب لعام 1992، ظلت ذات طابع مختلف عن الأحزاب التي عرفتها البلاد من قبل، سواء من حيث الموضوعات التي عنيت بها أو علاقتها بالجمهور أو مكانتها في السياق السياسي المحلي.

الأحزاب التي شهدها الأردن قبل عام 1989، تسمى عادة "الأحزاب التاريخية"، لطول عمرها وتقلب الزمان بها، وأهمها: الشيوعي (تأسس في الأردن عام 1949)، البعث (1952)، جماعة "الإخوان المسلمون"(1946)، القوميون العرب (1951)، ومن المعروف أن هذه الأحزاب شهدت تفريخات فيما بعد، وبخاصة «البعث» و«القوميين العرب». هذا بالإضافة إلى أحزاب أخرى برلمانية أو صغيرة لم تعش طويلاً.

تميزت الأحزاب التاريخية بأنها عاشت فترات مد جماهيري طويلة، وانخرطت في الحياة السياسية بالشكل "المثالي" الذي يجب أن تكون عليه الأحزاب، وبخاصة في الخمسينيات، فشاركت في الانتخابات وفازت فيها بمزاحمة للسلطة، وأثرت في القرار السياسي الوطني، وكان يحسب لها حساب فيه، ثم بعد عام 1957 طُبعت بالعمل السري دون أن يؤثر ذلك كثيراً في حضورها الموضوعي في الشارع. كما عُرف عن تلك الأحزاب تصرفها كجزء من منظومات دولية أو عربية أو إقليمية، بمعنى إنها لم تكن بالضبط أحزاباً أردنية خالصة.

 الأحزاب الجديدة التي تأسست في العقد الأخير من القـــرن العشرين وما تلاه، وهي كثيرة تنوف عن العشرين ويصــــعب حصرها، لأن عددها في "حراك" مستمر(تندمج وتنفـــصل ويظهر جديد منها ويخبو بعضها.. الخ)، لها –كما قلنا- طابع مختلف تماماً، فأكثرها بالكاد يفي بمتــــطلبات قانون الأحزاب الذي بات يشترط ألا يقل عدد أعضاء الحـــزب عن خمسمائة شخص (وبعضها لم يكن يفي بالشــــرط القديم حيث يفترض أن يبلغ أعضاء الحزب الخمسين!)، كما أنها على علاقة مبهمة بالشارع، فكثير من الناس لا يحفظون أسماءها، ولا يعرفون أي مطالب تتبنى ولا ماهية البرامج التي تعمل في إطارها، ثم إن هذه الأحزاب لا يوجد لها أثر فاعل في الحياة السياسية، ولا تأثير لها في القرار السياسي الوطني، ولا يحسب لها حساب فيه. فهذه الأحزاب غير قادرة مثلاً على الوصول إلى مقاعد مجلس النواب، حتى إن مرشحيها يتجنبون الإشارة لعضويتهم فيها أثناء الحملات الانتخابية!.

   للأمانة، يجب القول إن هذا الواقع الصعب الذي تعيشه الأحزاب الجديدة ينسحب أيضاً على الأحزاب التاريخية التي استمرت بعد عام 1989، لكننا لا نستطيع أن نساوي بينهما، لأن الأحـــزاب التاريخية –أصلاً- استُهلكت حتى من الناحية النظرية والفكرية، وبات من الطبيــعي أن تندثر بعد انتهاء الحرب الباردة بنصــــر مؤزر للمعسكر الرأسمالي، وكذلك بعد تراجع الفكرة القومية وتحول الدول العربية من المواجهة مع إسرائيل، إلى البحث عن عقد اتفاقات سياسية معها وعلاقات "طيبة" مع أميركا. أما الأحزاب الجديدة فقد كان يفترض أن تكون بِنْت قضاياها وظروفها المستجدة ، وأن تكون لذلك صدى لما يعتمل في الشارع من موضوعات ومستجدات، وتتصف بأنها ذات شعبية واسعة وتأثير كبير في الحياة السياسية. لكنها لم تكن كذلك، فلماذا؟!

ليس صحيحاً أن الأسباب الموضوعية التي ظهرت فيها تجربة هذه الأحزاب هي وحدها التي تقف وراء ما يمكن اعتباره "فشل الأحزاب الجديدة".

وأهم تلك الأسباب الموضوعية كما هو معلوم، رهبة المجتمع من فكرة الحزبية بتأثير من فترة الأحكام العرفية الطويلة التي عاشتها البلاد، وانصراف الناس عن السياسة في السنوات الأخيرة لانشغالهم بظروف العيش الصعبة، والتأثير الذي تركته الفضائيات على وسيلة تعاطي الناس مع الشؤون العامة وطريقة الحصول على المعلومات متمثلة بزهدهم بالاجتماعات العامة، وكذلك سيادة أفكار وآليات العلاقات العصبية (القربى، العشائرية، المناطقية،.. الخ) على بنية المجتمع وطريقة تحصيل الناس لمطالبهم بدلاً من سيادة الثقافة المدنية التي تقدم الأفكار على العصبيات، هذا بالإضافة إلى تقصد الحكومات إضعاف الأحزاب السياسية والحؤول دون تمددها بدليل قانون "الصوت الواحد" الانتخابي الذي يدفع الناس دفعاً لانتخاب الأقرباء لا البرامج التي تحملها الكتل الانتخابية.

 ليس صحيحاً –كما قلنا- إن تلك الأسباب هي وحدها ما صنع فشل الأحزاب الجديدة، فهناك أسباب أخرى، ذاتية، صنعتها تلك الأحزاب بنفسها وصنعت فشلها معها. ويمكن رصد الأسباب الذاتية التالية لهذا الفشل الذريع والمشهود:

1- عدم ميل هذه الأحزاب الجديدة للاندماج وتشكيل أحزاب كبيرة، يمكن أن تكون فيها أجنحة مختلفة. إذ يميل كل "جناح" إن جاز التعبير للانفـــصال عند أقل خلاف ويتجه لتأسيـــس حزب مستقل، بدليل الفـــشل السريع لتجارب الاندمـــاج الحزبي التي شهدتها الساحة الحزبية الأردنية في السنــــوات الأخـــيرة واتجاهها دوماً للانفراط!

2- عدم قدرة هذه الأحزاب على توفير مصادر دخل لعملها، ما يجعلها غير قادرة على إقامة أنشطة وتوثيق علاقتها بالناس، فالأحزاب في معظم دول العالم، تصنع استثمارات تدر عليها دخلاً، وليس بالضرورة أن تنتظر هبات الحكومة فقط!

3- إن كثيراً من هذه الأحزاب يتخذ طابعاً جهوياً وشخصياً، فإذا رحل الشخص المؤسس صاحب المال والنفوذ أو انسحب من العمل الحزبي، تضاءل حزبه، ربما حد العدم.

4- ثمة نقطة هامة جداً هنا، قد تكون من أهم الأسباب التي وسمت هذه الأحزاب بالفشل، وهي ضعف عدد كبير من قياداتها سياسياً وفكرياً وتنظيمياً، فأغلب هؤلاء ليسوا من الصف الأول من رجالات العمل السياسي في الأردن.

 كما أن هناك ضعفاً لدى هذه الأحزاب في التنظير الفكري، فمن يستمع لبعض قياداتها السياسية قد يصاب بخيــبة الأمل رغم الشهادات الأكاديمية العليا التي يحملها أكثــــرهم، فالشهادة شيء والموهــبة الشخصية والفكرية التي تجعل صاحبها "مفكراً" أو قائداً شيء آخر تماماً.

نتحدث دائماً عن العوامل الموضوعية غير المواتية لنجاح الحزبية في بلادنا العربية، ونغفل العوامل الذاتية لأحزابنا غير الناجحة. والحقيقة أن العاملين معاً يتضافران لإفساد الحيـــاة الحزبية السليمة، وتالياً الحياة السياســية المأمولة. نقول دائماً إنه لا أحزاب بلا ثــــقافة مدنية، فالأحزاب مؤسسات مدنية بامتياز، ولأن الثقافة المدنية ظلت غائبة عن مجتمعاتنا العربية في تجربتنا السياسية المعاصرة.

فقــــد تحولت الأحزاب السياسية إلى صيغ للتمثيل القبلي والمناطقي، وهو ما أفشل التجارب السياسية في كثير من البلــدان العربية، وبالذات تلك التي حكم فيها العسكر بأسماء الأحزاب، فقربوا أبناء مناطقهم وأقرباءهم، وحولوا بلادهم إلى مزراع يتسلط عليها هؤلاء الأقارب، فكان شكل الحكم جذاباً لكن جوهره فاسد. لكن هل الانتهاء إلى القبلية هو السبب الوحيد في فشل التجارب الحزبية العربية المعاصرة؟ بالطبع لا، فثمة مشكلات لا علاقة لها بالظروف الموضوعية، كالتي ذكرناها هنا، تتمحور حول ضعف أو هفوات وربما انتهازية بعض القائمين على قيادة الأحزاب.

يجـب القول إن الأسباب الموضوعية يمـكن عــلاجها بتغيير الثقافة السائدة، وهي مــسألة تتـولاها الأيام، أما الأسباب الذاتية فلا يمكــن علاجها إلا بمراجعات داخلية وذاتية تــضع العمل الحزبي أمام صورته الحقيقية، علّها تنتقــل به من الوجاهة إلى السياسة.

الأحزاب "الجديدة": لماذا لم تنجح؟ - سامر خير
 
08-Nov-2007
 
العدد 1