العدد 25 - رزنامه
 

السجل – خاص

"كيف بدّي وقّفْ تدخين" هو عنوان العرض الأدائي الذي قدمه اللبناني ربيع مروة بتنظيمٍ من مؤسسة خالد شومان – دارة الفنون، على مسرح البلد قبل أيام. وهو عنوان أبعد ما يكون عن مضمون العرض، كغيره من عناوين أعمال مروة («لكم تمنت نانسي لو أن كل ما حدث لم يكن سوى كذبة نيسان»، «البحث عن موظف مفقود»، «بيوخرافيا»، «تفضل سيدي إننا ننتظرك بالخارج»..). ويتضح ذلك من الاستهلال الذي قدمه مروة كاشفاً فيه عن النتيجة التي توصل لها بعد بحث عميق، وهي أن «المكتوب لا يظهر من عنوانه» كما هو شائع، وضرب لذلك مثلاً قائلاً: «أنا اسمي ربيع، ولكن كما ترون!». لتضجّ القاعة المحتشدة بالجمهور، ضحكاً وتصفيقاً.

مروة، الذي لم تندّ عنه ابتسامة رغم إضحاكه الجمهور لساعة ونصف الساعة، بدا بمنتهى الجدّية يساعده مظهره ونبرة صوته الثابتة والواضحة، وجلسته الرزينة خلف مكتب تعتليه أوراق واصل تقليبها والاستعانة بها، إلى جانب «لاب توب» استخدمه للعرض على الشاشة المخصصة، سارداً حكايته مع الأرشيف الذي بدأ جمعه منذ عقد من الزمان: قصاصات من صحف، صور، مقابلات، أخبار، مقاطع من برامج تلفزيونية، مواد متفرقة عمل بجدّ في تنسيقها وترتيبها وتوثيقها وتبويبها وحفظها بعيداً عن أي تلفٍ يمكن أن يصيبها.

يقول مروة المولود في بيروت (1967): «اليوم، صار عندي ما يشبه الأرشيف، أو يمكننا القول إنه أرشيف حقيقي يخصني وحدي؛ أرشيف بمثابة ذاكرة مضافة تحتل أماكن عدة من أركان مسكني؛ أرشيف يضني عيشي، لا أدري حاجتي له، ولا أعرف سبيلاً للتحرر من ثقله».

تميز العرض بالتفاعلية التي أوجدها مروة بسخريته السوداء الموجهة والناقدة بشكل لاذع لواقعٍ متناقض حدّ الجنون، من خلال إشراكه الجمهورَ في تقليب أوراق أرشيفه الذي يجسّد ذاكرةً جمعية تؤشر على الحروب التي عاشها ويعيشها لبنان. يقول مروة: «أسعى لعرض جزء من هذا الأرشيف ووضعه في متناول (العامة) في محاولة للتخلص منه ومن عبء ذاكرة اختلقتها. إنها محاولة لتدمير ذاكرة لا تعرف كيف تمحو نفسها».

خلال العرض الأدائي الذي تضافرت فيه الصورة والوثيقة والحكاية والطرفة والتمثيل والحركة المسرحية، تجوّل الجمهور مع مروة في عوالمه الداخلية وجوانيته واقتربوا من هواجسه وانشغالاته الذهنية، وتعاطفوا معه وهو يسرد خيباته، ويكشف قناعاته، ويستعرض صداقاته وحروبه، ويستذكر شهداءه.. بما دفع كل واحد من الجمهور للنبش في ذاكرته، والتفكّر في أرشيفه الخاص المخبأ في جوارير خزانته وغرفته ومكتبته..

وفي لحظة بدت حاسمةً وصل العرضُ عندها إلى ذروته الدرامية، يتخذ مروة قراره الحازم بحذف أرشيفه، واضعاً جميع المواد التي عرضها على الشاشة، والتي تشكل أيقونات على «اللاب توب»، في سلة المهملات، ليسود البياضُ صفحةَ الشاشة بموازاة صمت ربيع لدقائق وكأنه يتنفس من جديد دون أغلال الذاكرة المتعبة وقيودها.. بينما الجمهور الذي بدا محتجّاً للوهلة الأولى، يضجّ بالتصفيق والتصفيق دون انقطاع إعجاباً بعرضٍ مؤلم حدّ الدهشة.

“كيف بدّي وقّف تدخين”.. الأرشيف ذاكرة مضافة
 
08-May-2008
 
العدد 25