العدد 24 - ثقافي
 

مصطفى الحمارنة

درج إريك هوبزباوم على التأكيد في المقدمات التمهيدية لكل أعماله على أنه لا يسرد التاريخ، ولا يعيد صياغته، ولا يؤرخ لوقائعه أو يصف أحداثه كما تفعل جمهرة «المؤرخين» من قُدامى ومحدثين على السواء. إنه، كما يقول، إنما يتوجه إلى القارئ والمراقب والباحث الذكي المتعلم فحسب، فيدرس ظواهر التاريخ الأساسية والأحداث الكبرى المؤثرة في حياة الناس في المجتمعات البشرية، ويحلل أسبابها ونتائجها المباشرة وغير المباشرة، ويربط بعضها ببعض على نحو متكامل، في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية دون استثناء، بحيث تكون الحصيلة النهائية صورة نابضة بالحياة للواقع البشري في مرحلة معينة، تتسلسل على نحو جدلي مع ما يسبقها وما يليها من مراحل.

وفي سياق الإطار الفكري الجدلي العام الذي يتحرك فيه هوبزباوم، فإنه يستهل أول مؤلفاته المهمة «العصاة البدائيون» بمقولة أعتقد أن المؤرخين العرب المحدثين هم في أمسّ الحاجة إليها لدراسة الماضي والحاضر على حد سواء. فهو يرى في هذا الكتاب أن الحركات الاجتماعية التي حدثت في غرب أوروبا وجنوبها في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقام بها فلاحو الأندلس في إسبانيا، وعمال المناجم في درهام في بريطانيا، وحتى المافيا في صقلية، لم تكن وقائع لا يمكن التكهن بها، أو أحداثاً منبتّةَ الصلة بما قبلها وبعدها وحولها. كما أنها ليست من التفاهة إلى حد دفع أكثر المؤرخين إلى تهميشها أو اعتبارها فوراتٍ عرضيةً وحالاتٍ عابرةً من التمرد التلقائي الفاشل (وتلك، في ما أرى، هي المقاربة التي ناقش بها أغلب المؤرخين العرب ظواهر مهمة في التاريخ العربي الإسلامي قبل حركة القرامطة، وثورة الزنج وغيرهما). ويرى هوبزباوم أن هذه الحركات، سواء ما نشأ منها عن أصول ريفية أو فلاحية أو ما برز في المراحل ما قبل الحضرية وقبل الصناعية، تمثل احتجاجاً عنيفاً على القمع، والفقر: إنها صرخة للثأر من الطغاة ومن أصحاب الثروة والجاه، وحلم غامض لتقليم أظفارهم وانتزاع أنيابهم، وإزالة أخطائهم وخطاياهم ضد الناس البسطاء العاديين. وكان طموح هذه الحركات، في جوهره، غاية في البساطة، وهو أن يعيش الناس لا في عالم جديد متكامل، بل في عالم تسوده روح العدل والإنصاف ويعامل فيه الناس على قدم المساواة. إلا أن هذه الحركات التي تتشابه، من حيث طبيعتها، مع جوانب من حروب العصابات الحديثة، كانت جميعها تفتقر إلى عنصرين جوهريين لازمين هما: أيديولوجية متماسكة تهدد الأهداف والمرامي القريبة والبعيدة، وتنظيم مترابط يضم أطراف الحركة ويحدد مسؤوليات الأعضاء فيها ودرجات انتمائهم وأساليب عملهم.

وعلى الرغم من ذلك كله، فإن هذه الحركات تظل مسالكَ جانبيةً ومؤشراتٍ بارزة على مسيرة المجتمعات في المستقبل، ومكوناتٍ رئيسيةً في القوة الدافعة التي تحرك مسارات التاريخ البشري. والأهم من ذلك كله أن هذه الحركات الاجتماعية (البدائية) على ما بينها من اختلاف، تمثل آخر الأمر روافد مؤثرة تعزز التوجه نحو التغيرات الكبرى التي تتجلى في التاريخ الحديث في سلسلة من المنعطفات والثورات الحاسمة في العالم، ومنها الثورات الصناعية، والفرنسية، والأميركية، وأخيراً الروسية.

وفي جميع الدراسات التحليلية للحركات والأوضاع والظروف الممهدة للتغيرات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الحديث، يكون إريك هوبزباوم قد ارتاد سبيلاً جديداً في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، تبلور بعد ذلك في مقاربات جيل من أبرز العلماء الاجتماعيين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي لقضايا التغير الاجتماعي والحركات الاجتماعية والتحليل التاريخي المقارن، ومن بين هؤلاء: تشارلز تيللي Charles Tilly، وثيدا سكوكبول Theda Skocpol، وأنتون بلوك Anton Blok. وينطلق هؤلاء وغيرهم، على العموم، من عدد من المفاهيم التي أرسى هوبزباوم دعائمها في الدراسات التحليلية، ومن بينها مفهوم «العصيان الاجتماعي»، وما كان، بموجب التعريف «الرسمي»، يُدعى «الجريمة الاجتماعية». ويفسر هذان المفهومان كثيراً من الأنماط المختلفة السائدة في التاريخي والاجتماعي السياسي لمجتمعات متباينة وفي عصور مختلفة. وكانت معظم ظواهر العصيان هذه تُعرَّف، حتى عهد قريب، وفق المنظور التقليدي، حتى في المؤسسات التعليمية، بأنها حركات تمرد تقوم بها جماعات من اللصوص أو المجرمين أو المهمشين من طفيليات المجتمع. وجاءت هذه المدرسة الفكرية الجديدة في العلوم الاجتماعية لتُخرِج هذه الحركات من نطاق الرؤية التقليدية، وتُدخلَها في عداد مظاهر الرفض والاحتجاج على جوانب محددة في الواقع الاجتماعي المؤسسي، وفي سياق تاريخي محدد. ترتكز منهجية هوبزباوم في التحليل السياسي الاجتماعي على قاعدة معرفية موسوعية حول جميع مناحي الحياة في أوروبا وبقاع كثيرة من العالم في الفترة الممتدة بين بدايات القرن السابع عشر ومطلع القرن الحادي والعشرين في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والفنون. وهو يرى أن مهمة المؤرخ هي «اكتشاف الأنماط والآليات التي حولت العالم من حال إلى حال». ولا تقتصر هذه المهمة، في رأيه، على اكتشاف الماضي، «بل تتجاوز ذلك إلى تفسيره، ومن ثَمَّ إيجادِ رابطةٍ تشده إلى الحاضر».

وفي هذا الإطار الذي يتحاشى السرد الوصفي، ويركز على التفسير الاجتماعي لحركة التاريخ، أي «من الأسفل للأعلى»، تمكن هوبزباوم منذ عقود من وضع سلسلة من الدراسات المَعْلَمية في تحليل التاريخ الحضاري لأوروبا.

وفي « عصر الثورة» يتتبع هوبزباوم التحولات التاريخية الجسيمة البعيدة الخطر التي طرأت على أوروبا بخاصة والعالم عموماً بين عام 1789 وعام 1848، في أعقاب ما يطلق عليه اسم «الثورة المزدوجة»، أي الفرنسية التي تُسْتَهَلُّ بها هذه الفترة، ومُعاصِرتُها الثورةُ الصناعية في بريطانيا. وبعد أن يتحدث عن الخطوط العريضة لهاتين الثورتين، وما تلاهما من حروب، بما فيها الحروب النابليونية، وثورات وحركات سياسية في مختلف أنحاء أوروبا، ينتقل إلى تضاريس مجتمع ما بعد الثورة الجديد، ويتحدث، بأسلوب موسوعي شامل، عن التغيرات الجذرية التي طرأت بعد الثورة المزدوجة على البنية الطبقية والتنظيم السياسي في أوروبا، والتحولات التي تجاوزت مجالات الصناعة والاقتصاد والسياسية لتشمل الجوانب الأيديولوجية (بما فيها الدين والنزعة العلمانية)، ثم العلوم والآداب والفنون. ويمضي بنا الكتاب ليضعنا على أعتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كان هدير الموجة الثانية من الثورات يتصاعد من أعمق أعماق الأرض في الممالك الأوروبية كافة، توطئةً للانفجار العظيم عام 1848.

و«عصر الثورة»، شأنه شأن «عصر رأس المال» و«عصر الإمبراطورية»، له جدارته وأهميته، كما أن له قيمةً معرفيةً لا حدود لها. بيد أن له لدى القارئ والباحث والدارس العربي قيمةً متميزة، لسببين على الأقل:

يتجلى الأول في حرص المؤلف على استعراض الآثار والتداعيات التي انداحت على بقاع العالم الأخرى، وبخاصة على المنطقتين العربية والإسلامية، جراء الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، وحملات نابليون، والتوسع الاستعماري الأوروبي، وبدايات التفاعل الثقافي والعلمي والسياسي الحديث وبين العرب وأوروبا. أما السبب الثاني، فهو ما يؤكد عليه هوبزباوم في المقدمة التي وضعها خصيصاً لهذه الترجمة العربية لكتاب «عصر الثورة» وللسِّفْريْن الآخريْن اللذيْن سيصدران بالعربية تباعاً في هذه السلسلة. فمنذ القرن السابع للميلاد، وعلى مدى ألف عام، كان «الغزاة» يداهمون أوروبا من الشرق لا من الغرب. وعلى الرغم من أن التبادل التجاري كان موصولاً بين الطرفين، إلا أن التحولات المثيرة في أوروبا منذ اندلاع الثورتين الفرنسية والصناعة قد عكست اتجاه الغزو. فمع توسع الأوروبيين الاقتصادي والعسكري، تصاعدت في أرجاء العالم الإسلامي دعواتٌ تُذكي روحَ المقاومة للغزو الأجنبي، وتحض على الإصلاح الداخلي والتحديث في آن معاً، وذلك ما سيتطرق له هوبزباوم بمزيد من التفصيل في كتابيه الآخرين: «عصر رأس المال» و «عصر الإمبراطورية».

وما يزال هوبزباوم يواجه حتى اليوم صنوفاً شتى من النقد لا شأن لها بالنزاهة الأكاديمية أو الأمانة العلمية. وتصدر هذه الانتقادات لأسباب واعتبارات سياسية في التحليل الأخير، ومن مصدرين قد يبدوان متعارضيْن في الظاهر إلا أنهما يتقاطعان ويلتقيان في أكثر من ناحية.

المصدر الأول هو بعض الأوساط الفكرية اليمينية والليبرالية التي تأخذ على هوبزباوم اعتناقه للشيوعية منذ شبابه، ورفضه الانسحاب من الحزب الشيوعي رغم شجبه للمواقف السوفييتية أكثر من مرة. ويأخذ عليه البعض كذلك أنه لم يندد «بما فيه الكفاية» بفظائع ستالين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. وتتلخص حجة هوبزباوم ضد هذه الانتقادات بأن الحركة التي انتمى إليها هي التي أدت، في المقام الأول، إلى اندحار الفاشية والنازية في أوروبا. ويضيف أنه لا يستطيع، على الصعيدين الشخصي والإنساني، أن يتنكر لماضيه النضالي، لأن كثيراً من رفاقه ضحوا بأنفسهم وقضوا نحبهم- وعلى أيدي رفاقهم أحياناً- في سبيل قضية شريفة ومُثُل عليا، وهو لا يستطيع أن يضرب عرض الحائط بما قدموا من تضحيات. وقد اتسعت الفجوة بين هوبزباوم وهذا الفريق من النقاد بعد انهيار نظم الحكم الشيوعية في روسيا وأواسط أوروبا، وتزايد معارضته للسياسة والهيمنة الأميركية في الساحة الدولية.

أما المصدر الآخر للنقد الموجه إلى هوبزباوم فإن دوافعه السياسية لا تخفى على أحد؛ فهو، باعتباره مفكراً علمانياً وتقدمياً بالدرجة الأولى، يحمل منذ زمن موقفاًً معروفاً ومشهوداً من إسرائيل والصهيونية؛ وخلال السنوات الأخيرة، أدى تشدده في موقفه من إسرائيل إلى تعاظم الحملات الصهيونية ضده. ففي لقاء مطول أجرته معه صحيفة الأوبزرفر البريطانية في سبتمبر/ أيلول عام 2002، يقول هوبزباوم بمنتهى الصراحة والوضوح: «لم أكن صهيونياً قط. ولكن بعد أن قامت إسرائيل واستقر فيها اليهود، لم تعد فكرة إزالتها وإزالتهم واردة. ولم أكن أبداً من الداعين إلى تدمير إسرائيل أو إذلالها. نعم، إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل ، وهي سياسات كارثية شريرة؛ إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة. والسياسات الرسمية للأحزاب اليهودية التي تحكم إسرائيل الآن تعتبر منطقتي اليهودية والسامرة جزءاً مما أعطاه الله للإسرائيليين، وأعتقد اعتقاداً جازماً أن على اليهود أن يقولوا إن بوسع المرء أن يكون يهودياً دون أن يكون مؤيداً لإسرائيل».

وبين هذا الفريق من النقاد وذاك، يمضي إريك هوبزباوم قدماً في ما تبقى من أيامه. ويظل، في كل وقت، يردد عبارته المشهورة: "لقد أنجزت ما أنجزت دون أن أقدم أية تنازلات".

إريك هوبْزْباوْم : التاريخ صورة نابضة بالحياة للواقع البشري
 
01-May-2008
 
العدد 24