العدد 24 - حريات
 

تواجه بضع عشرات من الدول حالياً تحدياً غير مسبوق يتمثل في الارتفاع الكبير لأسعار المواد الغذائية، بما فيها الأساسية؛ كالقمح والأرز التي تضاعفت أسعارها خلال سنة واحدة فقط. وتأزمت الاوضاع في عدد من الدول بحيث اندلعت فيها اضطرابات عنيفة سببها عدم قدرة فئات واسعة من المواطنين، خاصة الطبقات الشعبية والفقيرة، على تلبية احتياجاتها الغذائية أو النقص الحاد في العديد من السلع الغذائية، مثلما حدث في بوليفيا وباكستان وبنغلادش وهاييتي واليمن والمكسيك والكاميرون ومصر والفلبين.

قبل أسبوعين، حذر جاك ضيوف، المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة من ردود الفعل العنيفة على هذه الأزمة، وأكد أنها باتت تهدد استقرار عشرات الأنظمة، خاصة في أفريقيا. وتأتي هذه الأزمة لتقوض جهود عشر سنوات كان "برنامج الغذاء العالمي" التابع للامم المتحدة يحاول خلالها تخفيض عدد السكان الذين يعانون من الجوع في العالم. وتشير دراسة حديثة "للصندوق العالمي للتنمية الزراعية"، إحدى منظمات الأمم المتحدة، إلى أن الأمن الغذائي لـ 16 مليون شخص إضافي سيتعرض للتهديد في كل مرة يرتفع فيها سعر السلع الأساسية بنسبة (1) بالمئة. وتضيف الدراسة أن هذا يعني احتمال تعرض 1.2 مليار إنسان لمعاناة الجوع بشكل دوري في عام 2025، وذلك بزيادة 600 مليون إنسان عما كان متوقعاً من قبل.

تستطيع دول الغرب أن تذرف الدموع تعاطفاً مع الجوعى في بلدان "العالم الثالث"، بل وتستطيع تقديم المساعدات المجزية للعديد من تلك البلدان، كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية، الممول الأبرز "لبرنامج الغذاء العالمي". لكن الحقيقة والواقع يؤكدان بأن سياسات تلك الدول، ومعها توجيهات وسياسات المؤسسات المالية الدولية، هي المسؤولة بشكل رئيسي عما آلت إليه الأوضاع المأساوية التي يعاني منها ـ وسوف يعاني ـ مئات ملايين البشر.

إن الانماط الغذائية الجديدة التي تجتاح العديد من البلدان الصاعدة، مسؤولة جزئيا عن زيادة الطلب المرتفع على المواد الغذائية الذي تشهده الأسواق العالمية في الوقت الحاضر. كما أن توسيع تلك البلدان في أميركا وأوروبا لمساحات الأراضي الزراعية من أجل زيادة إنتاجها من الذرة والقمح، المستخدمين في إنتاج الإيثانول(الوقود الحيوي)، لمواجهة ارتفاع أسعار النفط، أدى هو الآخر بصورة مباشرة إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية بصورة لم يسبق لها مثيل. ويستخدم ما لا يقل عن مئة مليون طن من الحبوب كل سنة من أجل صناعة الإيثانول والديزل الحيوي. وترتفع أسعار الذرة في الولايات المتحدة بصورة مشابهة لأسعار النفط!

أما مسؤولية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فتتمثل في الجهود التي بذلاها عبر عقود طويلة في العديد من دول "العالم الثالث" لإقناعها بأن "لا مستقبل للزراعة فيها"، وبأن عليها أن تركز جهودها على المحاصيل التصديرية التي تجلب لها العملات الصعبة. كما فرضت عليها التخلي عن أنماط إنتاجها التقليدية التي كانت تحظى بدعم القطاع العام ويعتاش منها قطاع واسع من السكان. ومن المفارقات أن البنك الدولي يتشدد في ضرورة رفع الدعم عن المزارعين في بلدان "العالم الثالث" في الوقت الذي تغدق فيه الولايات المتحدة التي تهيمن على البنك الدولي في دعم مزارعيها!

الخوف من تفاقم أزمة الغذاء، دفع العديد من المنظمات والشخصيات العالمية إلى التحرك، ليس فقط لنجدة البلدان المهددة في أمنها الغذائي على وجه السرعة، بل للمطالبة بحلول جذرية. من وجهة نظر الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، مثلاً، فإن الخطوة الأولى التي يجب أن يقوم بها المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته إزاء الوضع الناشئ وتتمثل في قيام تعاون شامل بين دول الشمال ودول الجنوب. إن مساعدة البلدان النامية من أجل تطوير بناها التحتية الريفية ومعالجة مشكلات الري والنقل وتنظيم الأسواق وتعميم القروض الصغيرة وإدخال الوسائل الحديثة في التخزين وحماية الزراعات التقليدية، هي إجراءات يجب العمل على تشجيعها ـ من خلال الأمم المتحدة والأطر الأخرى المناسبة ـ إذا ما اراد المجتمع الدولي تجنب انتشار القلاقل في العشرات من الدول والتي يمكن أن تؤثر على الوضع السياسي العالمي برمته.

**

كيف يمكن مواجهة الأزمة أردنياً ؟

قبل نحو أسبوعين، اتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات التي يتوقع أن تؤدي إلى انخفاض ملموس في أسعار العديد من السلع الأساسية. الأوساط الشعبية استقبلت هذه الإجراءات بتفاؤل، باعتبارها ستساهم في التخفيف من حدة غلاء المعيشة.

مع التسليم بأهمية الإجراءات المتخذة، من الضروري التنبيه إلى أنها تشكل "حلولاً مؤقتة"، وذلك في ضوء استعراض أسباب ارتفاع الأسعار عالمياً. فالازمة ـ كما يتضح ـ "هيكلية" ومستمرة، ولا يمكن اعتبار الأسعار الحالي أمراً عابراً. لذلك من الأهمية بمكان أن تتداعى مؤسسات الدولة والمجتمع المدني ـ ذات الاختصاص ـ في أقرب وقت ممكن للبحث عن حلول جذرية لم يعد هناك مفر منها.

عبد الهادي الفلاحات، نقيب المهندسين الزراعيين يعترف بأن جزءاً من الأزمة يعود لأسباب عالمية، إلا أنه يؤكد في تصريح أدلى به إلى "السجل"، بأن الحكومات المتعاقبة تعاملت مع أدوات الإنتاج الزراعي (الأرض، المياه، العمال.. ) باعتبارها سلعاً فقط، بل شجعت أيضاً على التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية، وتعاملت بشكل غير إيجابي مع التعليم الزراعي والبحث والارشاد الزراعي.. كل ذلك أدى إلى النتائج التي تعاني منها البلاد حالياً.

الفلاحات يضيف بأن نقابته، ومن خلال لقاءاتها مع المسؤولين كانت تحذر منذ عشر سنوات من الوصول الى تلك النتائج وتدعوهم الى إعادة النظر في السياسات المنتهجة. وللخروج من الوضع الحالي، يؤكد الفلاحات ضرورة إعادة الاعتبار إلى القطاع الزراعي وإدارة الموارد المتاحة وفقاً للمصلحة العامة فقط، وإلغاء الرسوم والجمارك على مستلزمات الانتاج الزراعي ومعالجة مشكلة شح المياه من خلال الإكثار من بناء السدود والحصاد المائي.

نقيبب المهندسين الزراعيين يعتقد بأن هناك مساحات واسعة من الأراضي التي يمكن استغلالها كمراع تؤمن جزءاً هاماً من حاجة البلاد من الأعلاف.

من ناحيته، يلاحظ محمد عبيدات، رئيس جمعية حماية المستهلك ـ في تصريح أدلى به إلى "السجل"ـ بأن إقرار قوانين لحماية المستهلك في الدول العربية ـ وآخرها سورية ـ لم يحل المشكلات التي تواجه المستهلك العربي. ويؤكد بأن جذر هذه المشكلات هو عدم وجود سياسات تموينية وإصرار الحكومات على حماية الاحتكار الذي يمارس من طرف أقلية من تجار الجملة. يتحكم هؤلاء التجار، بحسب عبيدات، في الأسعار ويتقاضون أرباحاً فاحشة دون أن يواجهوا بأية روادع. ويضيف بأن تجار الجملة في الأردن يبيعون السلع إلى تجار التجزئة بهامش ربح يتراوح بين 30 و 40 بالمئة، ولدى جمعية حماية المستهلك صورعن فواتير تثبت ذلك، في حين أن تاجر التجزئة يقبل بربح معقول، كإضافة ثلاثة قروش مثلاً على سعر كيلو السكر الذي يشتريه من تاجر الجملة بـ 37 قرشاً.

ويبدي عبيدات تشاؤمه من إمكانية أن تؤدي الإجراءات الحكومية الأخيرة إلى خفض الأسعار للأسباب المذكورة أعلاه، ويقول إن جمعية حماية المستهلك كانت قد وجهت مذكرات إلى الديوان الملكي وإلى رئاسة الوزراء تشرح فيها وجهة نظرها في كيفية معالجة ارتفاع الأسعار، إلا أن الجمعية لم تستلم أية ردود عليها، كما أن رئيس الوزراء لم يستجب لطلب عقد لقاء مع وفد من الجمعية سبق أن قدم لمكتبه منذ بداية تسلمه لمنصبه.

من الواضح أن الحاجة إلى الحوار ملحة، لكنه ليس ذلك النوع من الحوار الذي ساد في فترات سابقة، أي لـ "رفع العتب" ـ كما يقال، حيث يبقى كل طرف متمسكا بمواقفه في نهاية المطاف.

**

إتفاقيات وممارسات

يكاد المرء أن يصاب بالذهول من التناقض بين نصوص الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ووثائق الامم المتحدة بشأن حق الإنسان في الغذاء من جهة، وبين ممارسات الدول ـ خاصة الكبرى ـ في هذا المجال.

*المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 تؤكد أن "لكل شخص حق في مستوى من المعيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته، وبخاصة على صعيد الغذاء".

*المادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تقول: "تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية. وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحق".

* يقول "الإعلان العالمي الخاص باستئصال الجوع وسوء التغذية" الصادر عن الامم المتحدة عام 1974: "لكل رجل وامرأة وطفل حق غير قابل للتصرف في أن يتحرر من الجوع وسوء التغذية لكي ينمي قدراته الجسدية والعقلية إنماءً كاملاً ويحافظ عليها" (البند 1).

هناك نصوص أخرى مشابهة وردت في "إعلان روما بشأن الامن الغذائي العالمي " (1996)، وفي خطة عمل مؤتمر القمة العالمي للأغذية (1996) واتفاقية حقوق الطفل (1990)، ومؤتمر العمالة العالمي (1976).

الغذاء : حق للإنسان بات مهدداً !
 
01-May-2008
 
العدد 24