العدد 23 - بورتريه
 

محمود الريماوي

بدأ سالم النحاس(68 عاماً ) حياته السياسية على مقاعد الدراسة الثانوية نصيراً لحزب البعث، وبعد سنوات في أثناء الدراسة الجامعية في القاهرة، قيض له أن يصبح عضو خلية في الحزب الذي قاده إليه زميله في الدراسة حاتم زريقات . لقد التحق النحاس في البدء بالمحطة القومية شان نظرائه في اليسار الأردني والفلسطيني واللبناني، الذين عبر معظمهم حركة القوميين العرب. منذ تلك الأيام قبل 44 عاما لم يفارق أبو يعرب عالم السياسة وتقلباتها وصخبها .

يتخرج من القاهرة ويتوجه للعمل في الدمام والرياض ،فيمكث هناك أربع سنوات .لم يجمع مالاً يذكر، ولم ينخرط في حياة سياسية من أي نوع ، لكنه تمركس (اعتنق الماركسية) هناك وليس في أي مكان آخر، بفعل صداقة وحوارات نشأت بينه وبين مثقف من الجزيرة العربية .

يعود إلى عمان في صيف العام 1970 قبل أشهر من أحداث أيلول ، ويلتحق بالجيهة الديمقراطية . منذ ذلك الحين ينخرط بدأب منقطع النظير في نشاط ثقافي ونقابي وسياسي ،دفعت العائلة ثمنه ، وتم هذا النشاط الجم على حساب موهبته الأدبية، وهو ما يعترف به متأسفاً لنفسه وقد أعياه المرض دون أن ينال من روحه المعنوية ،أومن حس السخرية لديه فقد اختاره المرض ووقع علي رأسه ( الجلطة الدماغية ) فيما كان يتناول وجبة سمك، ويتسامر بأمان الله مع أصدقاء ..

في العام 1974 يسهم في إنشاء رابطة الكتاب الأردنيين، وهي أول إطار جمع الأدباء والكتاب الأردنيين . بعد عامين يعتقل ثم تتوالى عمليات إخلاء سبيله وتجديد اعتقاله حتى العام 1989 تاريخ التحول نحو الحياة الديمقراطية ورفع الأحكام العرفية. من المفارقات أن سالم النحاس ظل على مدى نحو ربع قرن يهندس انتخابات الرابطة فيبني ببراعة التكتلات والتحالفات داخلها ويفوز على يديه من يفوز ، لكن الحظ لم يحالف مؤسس الرابطة بالفوز بأحد مقاعد الهيئة الإدارية في انتخابات للرابطة جرت العام الماضي . هناك أجيال تتعاقب، وأولويات جديدة تحكم أجيالا صاعدة وربما كان ذلك ما فاته.

كان وما زال يسارياً، لكنه ليس على تلك الدرجة من التشدد أو الراديكاية الشائعة عنه. ويفاجأ من اقترب منه بميله إلى المرونة. لقد خاض الانتخابات النيابية ثلاث مرات أولها الانتخابات التكميلية عام 1984 ثم الدورتين الانتخابيتين عامي 1989 و1993 . لم يحالفه الحظ في المرات الثلاث "سقَطوني". كان الرجل يؤمن إذن ومنذ وقت مبكر ،بالعمل السياسي من خلال البرلمان وبالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وليس تحت الأرض.

يؤمن أن اليسار وقع في مبالغات وحتى في عمليات تجن ..كالموقف الذي تم اتخاذه آنذاك من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر . لكنه لا يرغب في الحديث عن محنة أيلول.كما يعتقد ان تكلساً أصاب اليساروبعض قياداته التي تحولت الى حالة من الارستقراطية التنظيمية، شبيهة بالارستقراطية العمالية.

حين يسأل عن المرحلة الراهنة ، يقر أن البلاد تنعم حقاً بهامش ديمقراطي، ولا مجال للمقارنة مع الحقبة الماضية " لكننا لم نبلغ بعد مرحلة قناعة السلطات بمبدأ تداول السلطة التنفيذية وهو ما يجعل الأفق السياسي مسدوداً" .في معرض آخر يتحدث عن رضاه عن انخفاض عدد الأحزاب من 36 حزباً إلى 16 حزباً فقط، بموجب القانون الجديد، الذي يشترط خمسمائة عضو لإعادة ترخيص الأحزاب .يرى أن الأحزاب الباقية تعكس صورة الواقع الحزبي والسياسي بأمانة أكبر من الازدحام السابق .ويؤمن أن المضي على طريق الديمقراطية يتطلب إئتلافاً واسعاً يضم كل الديمقراطيين بمن فيهم الليبراليين ،رغم قناعته بأن مساحة اليسار تتسع في البلد ،وهذا جزء من نظرة تفاؤلية وإرادوية أحياناً، تسم عتاقى اليساريين بصرف النظر عما ينطق به الواقع من هيمنة الإسلاميين المحافظين ومن فكر قومي شعبوي . يقول وهو على كرسيه المتحرك إنه لا يملك التخلي عن التفاؤل و"بيع الآمال " على حد تعبيره وإلا.. لو لم يكن متفائلا ، لكان عليه التخلي منذ البدء عن العمل السياسي كما يقول .

في واقع الأمر لم تعد ظروفه الصحية تسمح له بمزاولة أي نشاط سياسي وحتى أن يعيش حياة عادية نشطة ، وكان عولج قبل سنوات على نفقة الدولة في مدينة الحسين الطبية وفي ألمانيا . يتأسف أن رفاقه في حزب حشد ( حزب الشعب الديمقراطي) لم يحرصوا على إشراكه في الضمان الاجتماعي ، ولو فعلوا لما كان بلا مورد تقريباً ،ولما كان بحاجة الى الوظيفة هذه الأيام..من يشغلني في عمري هذا ؟ يتساءل ساخراً. يُذكر انه يتولى حاليا رئاسة تحرير الزميلة "الأهالي" ولكن من منازلهم ..من البيت .يقول: إنه مجرد منصب فخري! .

يمضي أبو يعرب أوقاته في البيت يقراً ويصغي للأخبار ويستقبل عددا ضئيلاً من الأصدقاء والمحبين، ويكتب رواية جديدة يصفها بالخاتمة ، ولا تخرج عن مسار رواياته المشبعة بالحس السياسي .ولا يفوته إبداء الإعجاب بمن يسميهم دهاقنة العمل البرلماني، وقد ذكر منهم النائبين ممدوح العبادي وعبدالرؤوف الروابدة . وفي معرض استعادته لشخصيات أردنية ذات تأثير عليه يذكر يعقوب زيادين ومحمود الكايد ، والمرحومين حمد الفرحان وسليمان عرار.بين الأربعة يساري واحد هو الأول ، وبما يدلل على رحابة الشخصية الفكرية لسالم النحاس، الذي لو عاش ظروفاً سياسية مختلفة، لكان ربما نائباً تحت القبة يزامل دهاقنة العمل النيابي على حد تعبيره ، بدل أن يوصف بالراديكالية دون سواها ، أو لانصرف للتأليف والنشر .

بدلاً من ذلك استحكمت النقمة بينه وبين السلطات على مدى ربع قرن على الأقل وكم من مراجعين ل "الدائرة "توجهوا هناك "من تحت راسه" لسؤالهم عن علاقتهم مهما كانت سطحية به . يترحم على محقق انتقل لرحمة الله، قال لإبي يعرب إنه سوف يفككه ليعرف ما بداخله بالضبط ..فأجابه أبو يعرب: لك ذلك شرط أن تحسن تجميعي بعدئذ.

لا يكتم أبو يعرب نزوعه إلى التمرد كخصيصة ذاتية لازمته ، وطبعت مسيرة حياته وحرص في مرحلة النضج أن يوائم بينها وبين حس واقعي وأحياناً براغماتي في العمل السياسي، ويستذكر تأثيراً كبيراً للشاعر عرار (مصطفى وهبي التل) عليه باعتباره شيخ المتمردين و"العصاة" وأول من شق طريق التجديد والحداثة في الشعر الأردني. يقول ذلك مترحماً على عرار وعلى حقبة الشباب التي ولت وتسربت من بين أصابع اليدين . لقد كتب النحاس الشعر وأصدر ديواناً بعنوان "أنت بالذات" في العام بعدما بدأ يتخفف من واجباته الحزبية ، وبعد رحلة طويلة مع السرد القصصي والروائي والمسرحي ، و تدبيج ما لا يحصى من بيانات وتقارير حزبية وخطابات وكتابات سياسية ،باتت وراءه الآن ، كما هي الحقبة التي أثمرت تلك الكتابات .

في الاحتفالية التي أقامتها صحيفتنا "السجل "لتوقيع أعماله الكاملة السبت الماضي ، خاطب ابو يعرب بعاطفة فياضة، جمهوره الذي غص به مقر الصحيفة قائلاً : لقد قررت أن أعيش طويلاً ..

ليهبه المولى ما اعتزم عليه و"قرره" .

سالم النحاس: “قرر” أن يعيش طويلاً!
 
24-Apr-2008
 
العدد 23