العدد 21 - ثقافي
 

عدنان الصائغ

لعمان في قلب كل عراقي غصة أو قصة: أدباء، وسياسيون، ورجال دين، ولصوص، ومعوقو حرب، وسجناء، وسجانون، وعلماء، وعاطلون عن العمل، وتجار، ومهربون، وطلاب وشيوخ ونساء وأطفال، تتالت رحلاتهم، واختلفت وجهاتهم، باختلاف الانقلابات والرياح التي مرت بالعراق.

لكن العقدين الآخرين (حرب الخليج الثانية وانتفاضة آذار 1991، وبعدها سقوط الصنم عام 2003 أو سقوط بغداد أو التحرير أو الاحتلال – سمه ما تشاء – )، شهدا نزوحاً كارثياً غير مسبوق؛ كأن أبواب السجن الكبير انفتحت على مصراعيها فجأة لكل حالم باجتياز ذلك الممر الرهيب (طريبيل – الرويشد) نحو مدينة التلال السبعة. ومن بعدها نحو أفق العالم المفتوح.

لكن المراكب الجامحة كثيراً ما كانت تتوقف عند حدود البلد الذي ‘بحره ميت وميناؤه عقبة’ كما كان يتندر عراقيون بالقول. لحظة التأفف؛ تأففنا الطويل والمرير الذي لم ينقطع، ذلك التأفف الذي كان يختصر الكثير ويقول الكثير. فمنه تستطيع معرفة كنه المتأفف واتجاهه وأصوله، تجسيداً حياً لمقولة الحكيم سقراط بقلب حكمته: ‘قل لي لماذا تتأفف أقل لك من أنت’!..

كنتُ من جيل النزوح الأول بعد عاصفة الخليج. حططتُ رحالي في عمان، شهر تموز 1993، وغادرتها في آذار 1996 نحو دمشق فبيروت فالسويد، حتى بلد الضباب، لندن. متأبطاً منفاي وكتبي واشتعالاتي.

عملتُ في صحيفتها ‘آخر خبر’ منذ عددها صفر وحتى إغلاقها، لأواصل الكتابة بعدها في عدد من صحفها ومجلاتها هنا وهناك، من أجل مواصلة العيش برغيف ضنك وسرير بائس يكفيان للبقاء على قيد الحرية والحياة..

تلقفنا ‘مقهى العاصمة’، وسط البلد، حيث أدباء وصعاليك مقهى ‘حسن عجمي’ ثانية، ننسل منها أحياناً إلى مقهى الهورس شو حيث الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، محطة الذاهبين والعائدين، وبعدها إلى مقهى’الفينيق’..

كانت الأماكن تنحسر والأدباء يرحلون واحداً تلو الآخر إلى منافيهم الجديدة، ونحن نودعهم كأننا سوف لن نراهم ثانية..

وأذكر عند باب الهورس شو: د. عبد الرضا علي وأنا، وبعد أن ودعنا البياتي شيخ المنفيين. وقفنا لبرهة على الرصيف نجيل النظر بملامح هذه المدينة التي سنغادرها إلى الأبد. هو – وقبله صديقاي عبد الرزاق الربيعي وفضل خلف جبر - إلى صنعاء، وأنا إلى دمشق. قلتُ له: سلّم على منفاك فأجابني ضاحكاً بغصة: لا تنس أن تسلّم لي على منفاك أيضاً.

من هذه الجملة العابرة التي أطلقناها بعفوية ولد ديواني ‘تأبط منفى’..

في عمان، متنفس حريتي الأولى، أصدرتُ أول ديوان لي في المنفى: ‘تحت سماء غريبة’، ثم ‘تكوينات’، وواصلتُ فيها أيضاً الكثير من ‘نشيد أوروك’..

في عمان كانت لي صداقات ولقاءات حلوة مع الكثير من مبدعيها: جمال أبو حمدان، مؤنس الرزاز، يوسف عبد العزيز، الياس فركوح، غازي الذيبة، زهير أبو شايب، باسل طلوزي، أمجد ناصر، ابراهيم نصر الله، د. احسان عباس، د. عبد الرحمن الكيالي، فخري صالح، حازم مبيضين، جواهر الرفايعة، مجد القصص، عبد الله حمدان، يوسف ضمرة، زياد قاسم، روكس بن زائد العزيزي، د. حسن الكرمي، محمد القيسي، علي ومحمد العامري، يوسف أبو لوز، عمر شبانة، خالد أبو الخير، طاهر رياض، باسم سكجها، نازك ضمرة، محمد سناجلة، ثريا ملحس ، سامية العطعوط، محمود شقير، نزيه أبو نضال، مفلح العدوان، بسمه النسور، عبد الرحيم عمر، زليخة أبو ريشة، محمد طمليه.. والقائمة تطول وتتسع، وعذراً للذاكرة التي ثقبّتها رياح الرحيل.

فلنا فيها من الذكريات والمواجع أكثر مما تسعها هذه السطور:

من مكتبة شومان حيث قرأنا الكثير والكثير من الكتب التي كانت لا تصلنا إلى هناك، إلى مصطبات الساحة الهاشمية.

ومن مهرجان جرش إلى فلافل هاشم.

ومن المؤسسة العربية لماهر الكيالي، إلى مقهى الفينيق لسعاد الدباح ومجلة عمان.

ومن المسرح الروماني، إلى مقهى السنترال وشقة نازك ضمرة.

ومن سبيل الحوريات وعراق الأمير، إلى آثار أم قيس.

ومن الشميساني، إلى مخيم البقعة.

ومن قصيدتي ‘آماناً أيها البحر’، إلى ‘غور الأردن’. ومن ‘وجبة’:

‘الجوعُ يمدُّ مخالبَهَ في بطني / فألتهمُ أوراقي / وأمشي../ واضعاً يدي على بطني / خشيةَ أن يسمعَ أحدٌ طحينَ الكلمات’

إلى ‘البتراء’:

‘أصغي لرنينِ معاولهم / تحفرُ التاريخَ / بأصابع من حجرٍ / وجلودٍ ملّحتها السياطُ / أصغي... / ثمةَ أنينٌ طويلٌ / يوصلني بسرّةِ الأرض’.

عمان قصة كل مثقف عراقي..أو غصته!
 
10-Apr-2008
 
العدد 21