العدد 20 - أردني
 

نهاد الجريري

منذ ثلاثة عقود، والجدل محتدم بين مواطني الفحيص، 20 كم غرب عمان، وإدارة شركة مصانع الإسمنت حول ما يصفه المواطنون "بالكارثة البيئية" التي تهدد حياتهم، فيما يصر مسؤولو المصنع أن تلك مجرد اتهامات. أما وزارة البيئة فتقف على الهامش تاركة المعركة تستعر بين الطرفين.

يحفظ أهالي الفحيص تاريخ "معاناتهم" مع إدارة المصنع الذي أنشىء في البلدة عام 1951 على مساحة 4 آلاف دونم. ويتحدثون عن "تلوث شامل" للبيئة من "غبار يغطي الجدران والأشجار، وضوضاء متواصلة في المصنع الذي يعمل بأربع ورديات، وتصدع المنازل من أثر التفجيرات، ومرور مئات الشاحنات في البلدة، ما يتلف الطرق ويساهم في تطاير الغبار." وعلى رغم انتقال ملكية المصنع من الدولة بوصفها أكبر مساهم، إلى عملاق صناعة الإسمنت في العالم، لافارج، فإن معاناة مواطني الفحيص لم تتوقف كما يقولون.

المهندس عاطف الداوود، رئيس جمعية البيئة فرع الفحيص، يزيد على ذلك بقوله: "إن المصنع تسبب في تلوث المياه في المنطقة وتشويه المخطط الهيكلي للبلدة، بالإضافة إلى الملوثات المنبعثة من احتراق الوقود".

توصية بالرحيل

ويدعم سكان الفحيص قضيتهم بالتذكير بأن الملك الراحل الحسين رحل عن المنطقة في أوائل التسعينيات بسبب دخان المصنع. ويزيدون أن قسم الصحة المهنية في وزارة الصحة في عام 1996 أوصى بترحيل المصنع إلى "منطقة أخرى مناسبة بعيدة عن المناطق السكنية والمناطق الزراعية الخضراء ومحمية من الامتداد العمراني ... في فترة زمنية محددة لا تتجاوز عام 2000 ".

لكن هذه التوصية لم تجد طريقها إلى التنفيذ، كما أن الحكومات المتعاقبة لم تتخذ أي إجراء حاسم في اتجاه حل المسألة، وتركتها تراوح مكانها وسط عشرات الاعتصامات والاحتجاجات التي نفذها أهالي الفحيص على مدى السنوات الثلاثين الماضية.

وهكذا بات المواطنون يرضون "بأي إجراء يقوم به المصنع للحد من الأضرار المترتبة على البيئة والسكان" بحسب داوود الذي يضيف "أن المصنع لم يتخذ أي خطوات في هذا الاتجاه".

كما لجأ العديد من سكان البلدة إلى القضاء الذي حكم لصالحهم في عشرات القضايا. موفق زيادات يقول إنه "كسب قضية في عام 2000، استغرقت 3 سنوات، على أساس نقص قيمة الأرض بسبب الملوثات التي يطلقها المصنع، وحدوث تصدعات بسبب التفجيرات التي تتم من أجل التعدين." راضي زيادات كسب هو الآخر قضية "نقص قيمة الأرض" لكنها استغرقته 12 سنة. ويقول "إن قيمة ناتج أرضه من الزيتون والدراق انخفض في تلك السنوات ما بين 30% إلى 40% عن أصناف مشابهة من مناطق نظيفة."

بالرغم من هذا، يقول زيادات إن "التعويض لم يكن بمستوى الضرر الناجم والذي لا يزال متواصلا."

الترحيل وارد

وسط هذا كله، نحت وزارة البيئة باتجاه "إدارة الأزمة دون حلها" بحسب وصف حازم عكروش الناشط البيئي وابن الفحيص.

الناطق الإعلامي في الوزارة عيسى الشبول يقول إن "الأمور تسير ضمن الحد الأدنى لما تريده الوزارة" فيما يتعلق باجتماعات دورية تعقدها الوزارة مع إدارة الشركة لمتابعة "خطة للتسوية" استبدلت خطة مشابهة رعاها الديوان الملكي عام 2003، ولم تتبلور إلى خطة عمل منهجية بسبب موقف إدارة الشركة آنذاك. ويلاحظ الشبول أن مصنع الإسمنت ليس "مصنع شوكولاته"، متحدثا عن خيار مطروح بالترحيل. ويشرح "الترحيل وارد ولكن ضمن قرار استراتيجي سليم على المدى البعيد"، دون أن يحدد إطارا زمنيا لمثل هذه الخطة.

إلا أن الشبول يؤكد أن ""القراءات لمنسوب التلوث والغبار من المصنع منتظمة ضمن الحد المسموح فيه"، وأن "الوزارة لن تتوانى عن اتخاذ أي إجراء من شأنه الحد من أي خلل قد يحصل لجهة مفاقمة الأوضاع البيئية في المنطقة"، مستشهدا بأن إدارة الشركة تلقت "إنذارا" نهاية العام الماضي عندما وردت قراءات تجاوزت المسموح به.

وينتهي إلى القول "نحن غير راضين تماما عن مصنع الإسمنت في الفحيص ونعتبر المنطقة من البؤر البيئية الساخنة، لكننا نعمل في إطار الممكن ونتعامل مع المشكلة بوصفها أمرا واقعا، ومع تركة عمرها 50 عاما، ومن هنا جاء سعينا إلى تحسين الظروف البيئية المحيطة بالمصنع وإلى تحسين أدائه بما يخفف من أي تداعيات بيئية."

هناء عتيقة مديرة العلاقات العامة في شركة مصانع الإسمنت، تعتبر أن "الإنذار" المشار إليه نجم عن "خطأ فني" تم تداركه، وتزيد أن الشركة نفذت في الفترة من 2002 إلى 2007 "برامج استثمارية بيئية بعشرات الملايين من الدنانير أهمها في 2005 عندما استبدلت جميع الفلاتر القديمة بأخرى كيسية جديدة لخفض نسبة الغبار." وتؤكد أن "تقريرا للجمعية العلمية الملكية" يقول إن "نسبة الغبار المنبعث تقل بكثير عن المواصفة الأردنية وهي 250 ملغم/م3."ى غير أن الجمعية رفضت أن تؤكد أو تنفي للسجل المعلومات المتعلقة بمنسوب الغبار الذي يطلقه المصنع باعتبار أن الدراسة المعنية كانت بطلب من شركة لافارج وهي الوحيدة المعنية بإعلان النتائج. لكن الشبول يقول إن القراءات الإلكترونية الواردة إلى البيئة تشير إلى أن منسوب الغبار هو ضمن "المسموح"، ولكنه ليس "أقل بكثير" من هذا الحد.

طاقة بديلة

الحلقة الأخيرة في هذا المسلسل من "الأخذ والرد" تدور حول نية المصنع التحول إلى الفحم الحجري أو الطبيعي كمصدر بديل للطاقة عن زيت الوقود المستعمل حاليا.

المهندس الداوود، يعتبر أن مثل هذه الإجراءات إنما تأتي من قبيل "المماطلة" بهدف "تطويل عمر المصنع". ويقول: "كل عامين تخرج إدارة المصنع بأمر جديد مثل التحول إلى طاقة بديلة يترتب عليها دراسات للأثر البيئي تستمر زمنا". ويضيف أنه تابع دراسة تثبت الأثر السلبي للوقود الحجري المنوي استخدامه في المصنع ضمن "تجربة" تشرف عليها وزارة البيئة حتى تتبين أضراره.

ويؤكد الشبول أن الوزارة سمحت باستخدام كميات محدودة من الصخر الزيتي كوقود بديل على سبيل التجريب لغايات خطة للتسوية أشرفت عليها وزارة البيئة في 2005/2006 مع إدارة الشركة والمجتمع المحلي في الفحيص ووزارة الأشغال وجهات أخرى ذات علاقة بهدف إلزام الشركة بتحسين خطوط الإنتاج للحد من تطاير البخار وتحديد مواقع ومواقيت عمليات التفجير والحد من الأزمة المرورية الناجمة عن شاحنات نقل الإسمنت. ويضيف: "نحن في طور استكمال الدراسة في ضوء ما تتمخض عنه من نتائج سنعلنها على الملأ فور ظهورها."

وشدد على نية الوزارة عدم السماح باستخدام مصادر أخرى. لكن عتيقة تشير إلى نية المصنع استخدام الفحم الحجري أو "الطبيعي"، بإشراف وزارة البيئة والمجتمع المحلي. وتؤكد أن هذا التحول يأتي أولا لاعتبارات بيئية، "إذ إن نسبة الكبريت (وهي مادة ملوثة) في الفحم الطبيعي، أقل بكثير منها في زيت الوقود". وتأتي ثانيا، قضية خفض تكلفة إنتاج الإسمنت التي باتت تشهد ارتفاعات حادة مع ارتفاع أسعار النفط عالميا. وتشرح: "تكلفة زيت الوقود تصل إلى 70% من مجمل تكلفة الإنتاج، وبما أن أسعار الوقود – خاصة مع تحرير قطاع الطاقة – باتت تتزايد بنسبة 7-10% شهريا، فإن التحول إلى طاقة بديلة سيوفر على خزينة الدولة ملايين الدنانير"، باعتبار أن المصنع ينتج 4 ملايين طن من الإسمنت سنويا.

لكن مبدأ الربح والخسارة هذا لا يبدو أنه يروق لأهالي الفحيص الذين يتخوفون من استمرار "التدهور" في بيئة المنطقة. الداوود يقول "بعيدا عن هذه الحسابات، القانون أولا وأخيرا لا يجيز الضرر"، ويتعهد بحملة "تصعيدية" في الفترة المقبلة تطالب "بجدول زمني" لإزالة المصنع، وسط تخوف كثير من أهل المنطقة بأن يبقى الحال على ما هو عليه "وعلى المتضرر اللجوء للقضاء" بحباله التي يعرف الجميع مدى طولها.

“إسمنت الفحيص”.. مشروع رابح أم معضلة بيئية؟
 
03-Apr-2008
 
العدد 20