العدد 20 - بورتريه
 

محمود الريماوي

في الرابع والعشرين من آب لعام 1988 أصدرت لجنة «الأمن الاقتصادي» وحسب تعليمات الإدارة العرفية قراراً بتنحية رئيس مجلس إدارة «الرأي» ورئيس هيئة التحرير فيها محمود الكايد عن موقعه. وكذلك المدير العام للمؤسسة الصحفية الأردنية محمـد العمـد. وتم تبييعهما أسهمهما بأسعار السوق.

كان ذلك الإجراء المدوي الذي رافقته خطوات موازية منها إغلاق رابطة الكتاب الأردنيين،

من آخر تجليات عهد الأحكام العرفية وأوامر الدفاع .لم تمض سنة واحدة حتى كان محمود الكايد يعود الى موقعه ،إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من استئناف الحياة الديمقراطية التي تعطلت لثلاثة عقود ونيف.

بعد نحو عشر سنوات وفي ظروف مرض الراحل الحسين ، ورغم التفتح الديمقراطي، يحال بين أبي عزمي والترشح لانتخابات مجلس الإدارة (تجري اليوم الخميس انتخابات مجلس إدارة للرأي في الاجتماع العادي السنوي للهيئة العامة). يغادر أبو عزمي مبنى الصحيفة ولا يعود إليها، وهو من أمضى فيها زهرة شبابه، التي ما زال يتحدث عنها بعاطفة كبيرة جياشة وكمن يفتح سيرة أحد أبنائه .

ترتبط الصحيفة الاولى باسم الكايد(74 عاماً) كما باسم مؤسسين آخرين مثل: الراحلين سليمان عرار، وجمعة حماد، ونزار الرافعي. أسهم إسهاماً كبيراً ومشهوداً في صنع قصة نجاحها .كانت وما زالت صحيفة شبه رسمية، وحيث تمتلك الحكومة حالياً 63 بالمئة من أسهمها عبر ملكية مؤسسة الضمان الاجتماعي لهذه النسبة الكبيرة من الأسهم .غير أن أبا عزمي نجح في تحويل مكتبه فيها ومنذ العام 1974 الى ما يشبه صالوناً سياسياً، تتردد عليه أطياف المجتمع السياسي.وفي فترة تميزت بأنه كان على الكلام..جمرك. وما أدراك ما الجمرك . وقد انعكس ذلك أحياناً على صفحات الصحيفة، إذ تم نشر مقال فيها على صفحة كاملة ليعقوب زيادين في فترة حظر الحزب الشيوعي وسريان قانون مكافحة الشيوعية. وبادر أبو عزمي للتعاقد مع الكاتب محمد حسنين هيكل لنشر كتبه على صفحات «الرأي» في وقت لم يكن يحظى فيه الكاتب المصري الأشهر بالرضى من دوائر رسمية.

على أن هذا الإنجاز الذي يحسب للرجل النابه والحصيف، تقابله مآخذ يتحدث بها أصدقاؤه وعارفوه بأنه لم يول اهتماما كافياً ومطلوباً لرفع السوية المهنية آنذاك لـ«الرأي»، التي لم تشهد برامج تدريب وتطوير لكادرها التحريري الكبير، ولم تتم الإفادة من الإمكانيات الهائلة للمؤسسة الصحفية الأردنية، لإصدار مطبوعات في وقت كان «السوق» يفتقد بصورة ملحوظة، الى منتجات إعلامية. وكان في وسعه البدء بتحويل المؤسسة الى «إمبراطورية» كما يقول صديق مقرب منه.

لم يلعب أبو عزمي دور معارض داخل مؤسسة مرعية رسمياً، بل سعي عبر صداقات وعلاقات واسعة الى توسيع هامش الحراك السياسي والفكري تحت مظلة الدولة باعتبار ذلك الخيار الأفضل للاستقرار السياسي، وضمان المشاركة، ومنع انسداد القنوات بين الناس ومواقع القرار. انعكس ذلك جزئياً وبحدود ضيقة على الصحيفة التي أدارها ، غير أنه ما إن هلت بوادر التحول الديمقراطي حتى فتح صفحات الصحيفة لأقلام شتى. وهو ما جعله يحظى بثقة الصحفيين في مختلف المؤسسات الذين انتخبوه نقيباً لثلاث دورات تجري انتخابات نقابة الصحفيين بعد ثلاثة أسابيع ، ويمتنع أبو عزمي عن الإدلاء برأي حولها «سوف أصوت كما يمليه علي ضميري كأي عضو في الهيئة العامة». فهو لا يرغب في فترة استراحة المحارب أن يخوض سجالاً مع أحد.

لما يتمتع به من موقع ومن صدقية، اختير عضواً في لجنة «الميثاق الوطني» الوثيقة المرجعية لمرحلة التحول التي ما نزال نعيش ثمراتها، ويعاني بعضنا من عثراتها. وقبل ذلك وفي مرحلة سابقة لعضوية المجلس الوطني (البرلمان الاستشاري المعين في فترة توقف الحياة النيابية). وإلى أن عُيّن وزيراً للثقافة في حكومة علي أبو الراغب لمدة تزيد على سنة واحدة .«قدمنا فيها الدعم لمختلف الهيئات الثقافية رغم الميزانية الضعيفة للوزارة» يقول أبو عزمي الذي استهل حياته السياسية وراء القضبان، وكان في الثالثة والعشرين من عمره .فقد أقتيد للاعتقال بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي، في حملة جامحة شملت مدنيين وعسكريين، إذ أمضى في السجن المركزي ثم في معتقل الجفر الصحراوي ثمانية أعوام .

يستذكر أبو عزمي أن تحولاً فكرياً في السنتين الأخيرتين وراء القضبان طرأ عليه بتأثير المد القومي والوهج الناصري في المنطقة، لكنه لم يشأ أن يعلن انشقاقه أو تخليه عن حزب الرفاق، رغم أن إشارة واحدة منه بهذا الاتجاه، كانت كفيلة بإخلاء سبيله. وقد تم بالفعل الإفراج عنه وعن مئات آخرين فيما بعد العام 1965 بموجب قانون عفو. يستذكر بأن طلبة مدرسة السلط الثانوية وهو في عدادهم، كانوا ينقسمون في تلك الأثناء بين بعثيين وشيوعيين وإخوان.. بينماالمستقلون من الطلبة كانوا قلة قليلة!.

وقد اختار الانضواء في الحزب الشيوعي بتأثير خريجين مسيسين عادوا من مصر ولبنان وسورية الى السلط.. وفي أجواء الحماسة الوطنية والصخب السياسي، الذي شهدته المملكة والمنطقة في أواسط الخمسينات وحيث كانت ترتفع شعارات مثل «الجلاد البريطاني كلوب، والطغمة الحكومية» وتفعل فعل السحر في قلوب الناس وبالذات الشبان منهم.

ينصرف أبو عزمي منذ سنوات لقراءة الكتب،منها مؤخراً مؤلفات تعيد النظر في تاريخ العرب والمسلمين صادرة عن دور نشر عربية في لندن . ولا يمارس حالياً نشاطاً إعلامياً مع أنه عضو في «المجلس الأعلى للإعلام» .يلفت الانتباه الى تشتت الهيئات الإعلامية ووفرة مجالس إداراتها ، وتراجع أداء مؤسسات رسمية، مثل التلفزيون الأردني، ومن موقع المجرب الخبير والحريص يستحث الأجيال الجديدة من الصحفيين أن تنهض بالمسؤولية، للارتقاء بالمهنة، وتجديد الإيمان بالصحافة كصناعة ورسالة ورؤية، لا مجرد صناعة ووجاهة اجتماعية. وفي رأيه أن شرائح واسعة من الصحفيين تتمتع بمستوى فكري جيد ، لكن دون أن ينعكس ذلك بصورة ملموسة على المهنة التي تشهد ازدحاماً ووفرة في المطبوعات..

محمود الكايد: من الجفر إلى “الرأي”.. سعي الى هامش أوسع
 
03-Apr-2008
 
العدد 20