العدد 19 - كتاب
 

دلائل عديدة تشير إلى أن القمة العربية في دمشق لن تكون بين القمم الناجحة، بل ربما تضاف إلى قمم الأزمات التي عقد العرب كثيرا منها على مدى العقود الأربعة السابقة ولم تفلح في حلها. فالدول العربية تعيش اليوم حالة من التفكك والتشرذم والتردي ربما لم تبلغها في تاريخها الحديث. ومن المفارق، أن يأتي هذا التفكك والتردي في وقت ترتفع فيه أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى مستويات شاهقة، وهو ما يعني بالنسبة للبلدان العربية النفطية مزيداً من الثروات والأموال التي تصب في خزائنها وتعاظماً لأحجام ودائعها في البنوك العالمية.

فإذا تذكرنا الفكرة القديمة التي ترى أن المال دائماً ما يبحث عن النفوذ، فإننا نقع على حال غريبة للأمة العربية التي تزداد أحوالها تردياً كلما ازدادت ثراء، ويتضاءل نفوذها كلما ازدادت ودائعها تكدساً.

من غير المجدي في هذه الحالة استحضار الإحصاءات القديمة الخاصة بالثروة العربية، فهي لا تصلح مؤشراً دقيقاً على الوضع الحالي للبلدان العربية النفطية، ولكن من المفيد الذكر أن هناك اتفاقاً على أن هذه الدول قد ازدادت ثراء، باستثناء العراق الذي لم تمكنه أوضاعه الأمنية المتردية من تصدير نفطه إلى الخارج بكميات تتناسب وإمكانياته النفطية الهائلة.

جملة القول إن البلدان العربية تتمتع بثروات نفطية هائلة، قدرت قبل الفورة النفطية الأخيرة بنحو 700 بليون دولار. وهذا الرقم يعادل قيمة الثروات التي نهبتها أوروبا من قارتي أميركا في عهد الاكتشافات الجغرافية. ومن خلال هذه الثروة الهائلة، إلى جانب عوامل أخرى، تمكنت أوروبا من الدخول إلى عالم الحداثة الذي لم ندخله بعد، وهو ما يطرح سؤالاً مشروعاً عن السبب الذي حال بين العرب وبين دخول عالم الحداثة. كما يستولد هذا السؤال سؤالا آخر حول عدم تحول هذه الثروات المتجمعة لدى البلدان العربية النفطية إلى قوة سياسية ضاغطة لصالح لعرب وقضاياهم العادلة.

في كتابه "حديث المبادرة" الصادر في أواخر السبعينيات، وهي السنوات التي حدثت فيها الفورة النفطية التي أعقبت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، تنبه الكاتب محمد حسنين هيكل إلى تلك الحقيقة من خلال ملاحظته بأن تراكم الثروات النفطية لدى العرب ترافق مع تراجع كبير في دورهم السياسي؛ وإلى أن الدور السياسي للبلدان النفطية الذي تقدم على المستوى العربي، لم يترجم إلى مثيله على المستوى الدولي، وبخاصة مع صعود موجة من العداء الأوروبي الأميركي للعرب عموماً على خلفية اتهامات أوروبية لهم بأنهم كانوا السبب في رفع أسعار النفط على المستوى العالمي، وارتفاع أسعار السلع الأخرى نتيجة له.

في تحليله لما حدث طرح هيكل فكرة دقيقة تقوم على التفريق ما بين القوة المالية والقوة الاقتصادية، مشيراً إلى أن البلدان النفطية العربية تتمتع بقوة مالية كبيرة، ولكنها لا تتمتع ببنيان اقتصادي قوي، فالمال قوة شرائية تودع في البنوك الأجنبية تحديداً، أما الاقتصاد، فإنه يتحول إلى بنيان قوي من خلال مشاريع طموحة تتوازن خلالها القطاعات الاقتصادية التي تترجم في نهاية كل عام إلى نمو بوتائر مرتفعة، كما هو حال الصين والهند اليوم.

ثمة فكرة أخرى ترتبط بالفكرة السابقة ارتباطاً وثيقاً وردت على لسان عدد من المفكرين العرب الذين لفتت نظرهم هذه الظاهرة، عزوا فيه أسباب تراجع تأثير الأمة العربية في ساحة السياسة الدولية إلى ظهور النفط في منطقة الخليج تحديداً، وهي منطقة بقيت حتى ظهور النفط، تعاني من تخلف شديد في بناها الاجتماعية والثقافية، وضعف في هيكليتها الاقتصادية، وافتقار إلى التقاليد الديمقراطية أو الثورية. غير أن هذه الفكرة التي راجت في السبعينيات من القرن الماضي، وجدت من ينقضها مع ظهور النفط في العراق الذي يتمتع بثروات طبيعية وبشرية كبيرة تصلح أساساً لإقامة بنيان اقتصادي قوي يقدم نموذجا للقدرة على استخدام الثروة النفطية في دعم عملية تنمية متوازنة. غير أن النظام العراقي القائم آنذاك، لم يقدم مثالاً أفضل فبقيت النتيجة واحدة، وهي عدم تحول ثروات البلدان العربية إلى قوة سياسية.

المفكر الاقتصادي الدكتور إبراهيم سعد الدين، يرجع الأمر إلى حالة التشرذم العربية التي لن يجدي معها النفط نفعاً. حالة التشرذم التي يقصدها سعد الدين لا تتعلق بالسياسة، مع ما تعنيه من عدم إنجاز الوحدة العربية، بل حالة التشرذم الاقتصادي التي جعلت التبادل التجاري بين البلدان العربية يراوح على مدى عقود بين 8 و10 في المئة، فيما تتم النسبة الأكبر مع دول العالم الأخرى. وبعودته إلى الجانب الاقتصادي، يحيل في صورة غير مباشرة إلى حقيقة أن الاتحاد الأوروبي الذي تحول اليوم إلى أكبر قوة اقتصادية في العالم، وثاني قوة سياسية بعد الولايات المتحدة، بدأ بنوع من التنسيق الاقتصادي في العام 1951، وتطور في العام 1958 إلى السوق الأوروبية المشتركة، فالاتحاد الأوروبي عام 1990. يدرك سعد الدين أن لانخفاض أحجام التبادل التجاري بين البلدان العربية أسبابه الموضوعية، ومن بينها أن هذه البلدان تضم الصناعات نفسها المنبثقة عن الثروات المتشابهة التي تتمتع بها، لكنه يرى أن هنالك إمكانية حقيقية لنوع من التنسيق بين البلدان العربية بحيث تضع خططاً تنموية منسقة فيما بينها لترسي أساساً تقوم عليه اقتصادات قوية بين البلدان العربية المختلفة. مثل هذه الخطوات التنسيقية التي تتجاوز الخلافات السياسية بين الدول العربية قد تكون الخطوة الأولى نحو خلق قوة اقتصادية قادرة على التحول إلى نفوذ سياسي. عندها فقط يمكن أن يتحول العرب إلى قوة سياسية تؤخذ في الحسبان.

صلاح حزين: مزيد من الثراء.. قليل من النفوذ السياسي
 
27-Mar-2008
 
العدد 19