العدد 19 - أردني
 

صلاح حزين

في التاسع عشر من الشهر الجاري حلت الذكرى الخامسة لغزو العراق بقوات أميركية تدعمها قوات بريطانية وأخرى إسبانية، وقوات أقل عددا من دول أخرى. الرئيس الأميركي جورج بوش الذي اتخذ قرار الغزو في ولايته الأولى ألقى خطابا في هذه الذكرى كرر فيه ما كان قاله قبل ذلك أكثر من مرة، من أن العراق أصبح أكثر أمنا بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

لكن أخبار العراق كانت تقول غير ذلك تماما، فبعد أيام من حلول الذكرى كانت المنطقة الخضراء، وهي منطقة محروسة جيدا في وسط بغداد تضم معظم أجهزة الدولة العراقية وقيادة الجيش الأميركي والسفارات الأجنبية، تتعرض للقصف، وكانت الاشتباكات بين القوات الأميركية ومسلحين عراقيين، تبين فيما بعد أنهم من رجال "الصحوة" الذين يخوضون حربا ضد تنظيم القاعدة في العراق، قد أسفرت عن مقتل ثمانية مسلحين وأربعة جنود أميركيين، وكان جيش المهدي التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر يهدد بنقض هدنة مدتها ستة أشهر كان قد التزم بها زعيمها الديني الشعبوي، وكانت مدن عراقية أخرى تشهد اشتباكات وعمليات انتحارية، وكأنها ترد ردا مباشرا على ما قاله بوش.

وقد بعثت هذه المناسبة ذكريات التحضير لغزو العراق من جانب الولايات المتحدة، وهي تحضيرات تخللتها مزاعم تبرر الغزو ثبت كذبها، مثل وجود أسلحة دمار شامل في يد "الطاغية" صدام حسين، ومزاعم عن شراء العراق اليورانيوم من النيجر لصناعة قنبلة نووية، ومزاعم أخرى عن ارتباط بين الرئيس العراقي الراحل وتنظيم القاعدة في أفغانستان. وعلى الرغم من اعتراف وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولين باول بأنه كذب في خطاب له في اجتماع مجلس الأمن الدولي قبيل الحرب، وثبوت عدم صحة المزاعم الأخرى، فإن ذلك لم يمنع الإدارة الأميركية من أن تمضي قدما في محاولات إثبات أنها كانت على حق في اتخاذ قرارها بغزو العراق، مستعينة بتبريرات جديدة ليست أقل تهافتا، ومواصلة القول إن العالم من دون صدام حسين أفضل.

غير أن حجم التغيرات التي طرأت على العراق خلال السنوات الخمس الماضية، وكذلك على الولايات المتحدة نفسها كان أكبر بكثير من تسطيحات الرئيس الأميركي للحرب وأسبابها والهدف من ورائها. وقد شاهد كثير من المواطنين مواطنا أميركيا على شاشة إحدى الفضائيات يتساءل عما إذا كان الرئيس الأميركي سيتخذ مثل هذا القرار لو كان العراق يملك أرضا صالحة لزراعة اللفت، وليس أرضا قائمة على احتياطات هائلة من النفط، في إشارة إلى أن النفط كان السبب في اتخاذ الرئيس الأميركي لقراره قبل خمس سنوات، أما الزعم بأن الغزو جاء لتخليص الشعب العراقي من نظام قمعي وطغياني مرعب، وإدخال الديمقراطية إلى العراق فلم يكن أكثر من ذريعة واهية لتبرير غزو بلد يختزن باطنه واحدا من أكبر احتياطيات النفط في العالم.

ولكن بعض المواطنين العرب الذين ربما أثارت المفارقة في المثل الذي طرحه المواطن الأميركي سخريتهم، كانوا يعرفون السبب الحقيقي لغزو العراق، وهي معرفة تأكدت حين شاهدوا على الفضائيات الجنود الأميركيون يحمون وزارة النفط العراقية ويتركون المتاحف العراقية التي تحوي كنوزا إنسانية نادرة عرضة للنهب والسلب والتدمير.

من المؤكد أن أحدا لم يتوقف عند ما قاله الرئيس الأميركي في الذكرى الخامسة للغزو الأميركي للعراق، فهو كرر معزوفة مملة رددها طوال سنوات خمس مضت على احتلال العراق، وفي المقابل بدأ المحللون والمعلقون والمراقبون والكتاب في إحصاء الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب العراقي؛ خسائر مالية فقدت فيها بلايين الدولارات، في عمليات فساد غطت على الدعوات للتحقيق فيها أصوات المدافع والقذائف والتفجيرات، خسائر بشرية حصدت أرواح ما بين 600 ألف ومليون عراقي، ونحو أربعة آلاف جندي أميركي، وتضمنت تهجير عدد يناهز أربعة ملايين ونصف المليون مواطن عراقي، بينهم مليونان ونصفا المليون داخل العراق ومليونان خارجها التحقوا بملايين أخرى من اللاجئين الذين كانوا سبقوا هؤلاء إلى المنافي الأوروبية والأميركية هربا من عسف النظام العراقي السابق. وخسائر عينية يصعب تقديرها ناجمة عن دمار لحق بقرى وبلدات ومدن عديدة،

وكانت هناك خسائر معنوية مثل بروز جوانب لم تكن معروفة في العراق قبل الغزو، مثل طغيان المشاعر الطائفية والإثنية على المشاعر الوطنية والقومية لدى المواطن العراقي، وهي مشاعر تغذت عليها أعمال تطهير إثني وطائفي حولت أحياء في بغداد تحديدا إلى مناطق معزولة عن بعضها بجدران إسمنتية عالية، يعيش خلفها شيعة أو سنة أو أكراد، فخلال السنوات الخمس الماضية فعلت أعمال التطهير تلك فعلها وغيرت من التركيبة الديموغرافية في بغداد وفي مناطق أخرى عديدة جنوبي العراق ووسطه وشماله، فأصبحت المناطق تعرف بحسب ساكنيها ومذاهبهم وإثنياتهم.

لقد أسفر ذلك كله عن إرساء أرضية لتقسيم العراق على أسس إثنية وطائفية، وخاصة مع النشاط الكبير لإيران في الجنوب ذي الغالبية الشيعية، وفي الشمال حيث كردستان العراق التي تمتعت بحماية أميركية منذ العام 1992، ما ضمن لها أن تعيش بعيدا عن سلطة المركز الرهيب في بغداد، فخلال تلك السنوات لم يرفرف العلم العراقي على أرض كردستان، وعندما حان الوقت لرفعه، اشترط الأكراد إدخال تعديلات عليه. وربما كانت كل هذه الكوارث التي لحقت بالعراق خلال سنوات الغزو هي التي جعلت الكاتب الأميركي باتريك كوكبيرن يكتب مقالا في ذكرى الغزو منحه عنوانا موحيا هو "كيف تدمر بلدا في خمس سنوات."

لكن الحرب تركت تأثيرها السالب على الولايات المتحدة أيضا، فمن المفارق أن ذكرى الغزو تأتي في ظل احتدام السباق الجاري في أميركا نحو البيت الأبيض بين مرشح جمهوري يؤيد بقوة الحرب على العراق، ومرشحين ديمقراطيين يعارضان الحرب، ويدعوان إلى سحب القوات الأميركية منه، فالعراق أكثر البنود أهمية على جداول أعمال المتسابقين للوصول إلى البيت الأبيض حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.

لكن التأثير السالب لغزو العراق على الولايات المتحدة لا يتوقف هنا، بل يتعداه إلى التراجع الكبير في صورة الولايات المتحدة بوصفها دولة قانون تحترم فيها حريات الإنسان وحقوقه الأساسية. وقد كان موحيا في هذا المجال أن الرئيس بوش قد وقف قبل أيام قليلة في وجه قرار يمنع ممارسة أسلوب "الغمر بالماء" الذي كشف النقاب أخيرا عن ممارسته في معتقل غوانتانامو الذي يطالب كثر، بمن فيهم سياسيون أميركيون، بإغلاقه.

وإن كان سجن غوانتانامو في القاعدة الأميركية في كوبا هو العنوان الأبرز للانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون لدى الولايات المتحدة، فإن ما كشف عن وقائع تعذيب السجناء في سجن آخر قرب بغداد هذه المرة، هو سجن أبو غريب، عام 2004، قد ألحق ضررا في صورة تكونت بعد الغزو خصوصا، لولايات متحدة تنافس دولا طالما وصفتها، هي نفسها، بالقمعية، في مجال انتهاك حقوق الإنسان.

ولكن هذا ليس كل ما يمكن قوله حول التأثيرات السالبة لغزو العراق على صورة الولايات المتحدة، فهناك القوانين المقيدة للحريات التي صدرت في صورة خاصة حين كان جون أشكروفت يحتل منصب وزير العدل خلال ولاية بوش الأولى في الحكم، وهناك المضايقات التي يتعرض لها الأجانب والتي صيغ بعضها في قوانين وجدت طريقها إلى التطبيق المتعسف أحيانا، وهناك ما كشف منذ سنوات حول إرسال معتقلين عراقيين وأفغان إلى بلدان بعضها في الشرق الأوسط ليعذبوا في سجونها لانتزاع الاعترافات منهم. وكانت صدفة غير سارة للإدارة الأميركية أن كشف النقاب أخيرا عن أن بعض هؤلاء كانوا قد تعرضوا للتعذيب في قاعدة عسكرية على أرض جزيرة دييغو غارسيا البريطانية من وراء ظهر الحكومة الحليفة.

ما مر في هذه المقالة الاستذكارية، ليس أكثر من عناوين رئيسية كبيرة لما حدث في العراق وأميركا خلال خمس سنوات بدأتها الإدارة الأميركية اعتمادا على كذبة، ولم يفلح كل هذا الدمار الذي شهده العراق المنكوب في إيقاظ الإدارة نفسها على الحقيقة.

خمس سنوات على الغزو الأميركي للعراق.. حرب بدأت بكذبة وانتهت بحقائق مرعبة
 
27-Mar-2008
 
العدد 19