العدد 19 - اقليمي
 

سعد حتّر

ثمّة فئة تصنع الأحداث، وأخرى تتابع تفاصيلها. وهناك شريحة ثالثة تبدي دهشتها من الحدث عقب وقوعه.

المؤتمرون العرب في دمشق سيجدون وقتاً «للاندهاش»، وقتاً للتساؤل: ماذا حصل منذ قمّة الرياض ربيع العام الماضي، ومن قبلها عشرات القمم؟ كم من فرص ضيّعت، انقلابات وقعت وحروب اشتعلت؟

يتقاطر العرب إلى دمشق، وكل منهم يحمل أجندته الخاصة - بينما يتواصل اشتعال الساحة الفلسطينية، انزلاق العراق إلى نقطة اللاعودة وتشظي لبنان سياسياً على مذبح الخلافات العربية.

ففي ظل الفجوة القائمة بين أكثر من معسكر، ستتحول القمّة إلى منبر لتصفية حسابات واصطفافات متضادة تذكّر بسياسات المحاور في النصف الثاني من القرن العشرين. في تلك الحقبة ظلّت القضية الفلسطينية، وهزاتها الارتدادية في الإقليم- من الأردن إلى لبنان- الوجبة الرئيسة على طبق القادة العرب.

أزمة لبنان كانت مرشحة لتسيّد قمّة دمشق، في غياب حماس عربي لمراجعة سياسة «غصن الزيتون»، الذي يبس وتناثرت أوراقه، منذ أطلقت قمّة بيروت (2002) مبادرة عربية، وأحيتها قمة الرياض، بالارتكاز إلى مقايضة انسحاب إسرائيلي كامل بتطبيع عربي شامل. لكن الحكومة اللبنانية أعلنت مقاطعتها للقمة، بعد ساعات من إعلان السعودية تخفيض مستوى تمثيلها الى سفير.

سورية كانت «تكتكت» باتجاه تغليب الملف الفلسطيني وإزاحة أزمة لبنان إلى المقعد الخلفي، حتى لا تقف أمام استحقاقات ما يجري في بيروت بعد ثلاث سنوات من إخراج الجيش السوري من لبنان بقرار دولي.

اشتعال جبهة غزّة-إسرائيل الشهر الماضي ساهم في إنجاح التكتيك السوري- عن قصد أو عن غير قصد. المفارقة أن سياسات الحركة الإسلامية في القطاع تمنح ذريعة لتوجهات اسرائيل التوسعية وتصب في مصلحة خندق التشدد. لذلك سيكون صوت حماس عالياً في القمّة، وقد يفاجأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس بجلوسه إلى جانب غريمه رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل.

عبّاس لا يمتلك ترف الغياب. لأن قضية وطنه ستكون موضع السجال والنقاش امتداداً لتقليد يترسخ منذ عقود. كالمعتاد ستكون الاستقطابات في أوجها حول هذه القضية، وحول ملف لبنان المتفجر حتى في غياب حكومة هذا البلد.

ولا يبدو أن في الأفق نوايا لجسر الفجوات. فالكل يغنّي على ليلاه. بل يتجه التخندق إلى التعمق بعد أن استباحت الساحة العربية قوى إقليمية ودولية من طهران إلى تل أبيب إلى واشنطن.

حتى ربع الساعة الأخيرة، ظلّ الأمل قائماً بإمكانية إنقاذ القمّة عبر التوصل إلى تفاهمات لجهة إنقاذ الوضع السياسي في لبنان. حتى أن روسيا دخلت على خط الوساطة عبر وزير خارجيتها يفغيني لافروف، بأمل رصف الطريق أمام مشاركة سعودية على مستوى رفيع، في حال انتخاب رئيس للبنان بعد أربعة أشهر من المراوحة.

لكن يبدو أن حسابات دمشق، القريبة من فلك طهران، فضّلت التخلّي عن رضى كبرى الدول المنتجة للنفط في العالم على التنازل عن «كروت» حيوية- تتقاطع مع مصالح إيران- في لبنان والملف الفلسطيني، وأيضاً في العراق.

في المحصلة لم ينجح المعسكران؛ فبينما فرضت سورية أجندتها سارعت السعودية لتقزيم تمثيلها إلى القمة في سابقة.

ويبدو أن دولاً عربية قريبة من السعودية تتجه لتخفيض مستوى تمثيل وفودها إلى وزير أو سفير. الأردن، الذي يسعى لامساك العصا من المنتصف حتى لا تتضرر مصالحه الثنائية مع سورية، سيرسل وزيراً على رأس وفده.

رئيس الوزراء نادر الذهبي ترأس وفد الأردن قبل اسبوعين إلى مؤتمر القمّة الإسلامية في داكار، ما يشي بوجود اصطفاف جزئي إلى جانب السعودية.

قبل ذلك، لم تنجح محاولات سحب البساط من تحت أقدام الدولة المستضيفة، كما تراجعت السعودية عن خططها باستباق قمّة دمشق باجتماع ثمانٍ بأمل تغيير مسار المناقشات العربية.

صواريخ حماس وبربرية إسرائيل منحت سورية ذخيرة في معركتها السياسية صوب حشد تأييد رأي عام عربي محبط من الزعماء البراغماتيين. أجواء ما قبل القمة كانت دراماتيكية وحبلى بالتهديدات ولعبة فتل العضلات السياسية على ايقاع القنابل ومذابح غزة.

خلال القمّة، ستحاول دول عربية مفاتحة سورية، باعتبارها "دولة إقليمية صاحبة نفوذ" حول خطورة تحالفها مع إيران على حساب قضايا العرب الرئيسة.

الغرف المغلقة في القمة ستشهد مناكفات ،ملاسنات وعتاب.

فسورية ستحاول توظيف القمة لحسابها وربما بما يتماها مع مصلحة إيران، التي تزحف عبر العراق المنهار باتجاه تصدير ثورتها صوب سائر دول الخليج.

لم يعد القرار العربي بيد العرب لكي يتفقوا على شيء، بخاصة في المفاصل الأساسية الثلاثة: لبنان فلسطين والعراق. إذ باتت إيران تمتلك القرار المعطل: لا أمن هناك ولا استقرار ولا تركيبة حكومية من دون حسم إيراني.

عراقياً اجتماع القمة لن يخرج بأكثر من ضرورة المحافظة على وحدة هذا البلد وتحقيق مصالحة سياسية لدعم الاستقرار. وسيطلب العراق مرة أخرى من الدول العربية أن تسرع في إرسال السفراء إلى بغداد لتحسين علاقاتها مع حكومة نوري المالكي الموالية لطهران. ستعلو أصوات الوفود حول لبنان بين عدد من الدول العربية وسورية. لكن في النهاية سيصدر قرار بدعم المبادرة العربية الخاصة بهذا البلد، مع التأكيد على ضرورة دعم وحدته وتفعيل مؤسساته الدستورية المتعطلة. فغالبية العرب وسائر العالم باتوا على قناعة بأنه "لن ينتخب رئيس جديد للبنان قبل انتهاء ولاية الرئيس الاميركي جورج بوش اواخر العام الجاري ومجيء إدارة جديدة إلى البيت الأبيض". كما أن السعودية وحلفاءها، بعكس سورية، لا يستطيعون التأثير على مجريات الأحداث في لبنان إلا من خلال الضغط السياسي، في غياب ميلشياوي تابع لهم على الأرض.

ملف المفاوضات السلمية سيشهد جدلا مماثلا. ستحاول سورية إحراج الدول التي متهمة بـ"الاستسلام بدل السلام". وستطلب وعدد من الدول التي تساندها بضرورة إعادة النظر بمبادرة السلام العربية بسبب فشل عملية السلام على يد أميركا المتخبطة، وإسرائيل التي تمعن في تسمين المستوطنات وضرب مصداقية الرئيس الفتحاوي عباس مع تنامي شعبية حماس.

ستكون هناك محاولات لتحديد مهلة زمنية يعلن العرب بعدها وقف التزامهم بالمبادرة. بالمقابل، ستصر الدول العربية التي تقف في الخندق الآخر على أن تلك الشروط لا تصلح في زمن تظل المفاوضات مع إسرائيل، مع أن هذه الدول تعلم في قرارة نفسها بأن إسرائيل وأميركا اجهضتا المبادرة منذ اطلاقها وأن حل الدولتين لن يرى النور.

وفي الذهن ايضاً بوادر غزل سوري- اسرائيلي تحت الطاولة باتجاه تحريك المسار السوري المتعثر منذ 1999، فلكلا الجانبين مصلحة في احياء مفاوضات الجولان.. سورية للهروب من الضغوط الاميركية بشأن المحكمة الدولية المتصلة باغتيال رفيق الحريري. واسرائيل للهروب من استحقاقات السلام على المسار الفلسطيني.

ستؤكد الدول العربية أن وقف عملية السلام يعني دفن الدولة الفلسطينية المستقلة على حساب الاستقرار الإقليمي ومصالح دول عربية مجاورة كالأردن ومصر. لذا ستطالب بمواصلة دعم الجهد التفاوضي وبسط الاستقرار في غزة من خلال هدنة بين إسرائيل وحماس بوساطة مصرية. وفي الأخير سيصدر قرار يطالب بتشكيل لجنة متابعة لمسار السلام على أن ترفع توصياتها إلى اجتماع طارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب. ويبدو ان لبنان يستعد لاستضافته. وسيختتم الحفل السنوي بقراءة بيان ختامي باهت يتسق مع الحد الأدنى من قدرة العرب على الاجتماع بدل الاجماع على نقاط مشتركة.

العرب في دمشق.. محطة جديدة من الانقسامات
 
27-Mar-2008
 
العدد 19