العدد 19 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

تحني هامتك تلقائياً حين تلج الى بيتها ذي التصميم التراثي. فالباب الذي يفتح منه باب، يشوش قياساتك، فتخال أنك إذا سرت منتصب القامة سيرتطم رأسك في سقفه. ولا تلبث حين تلج منه منحنياً أن تنبهر بشسوع صومعتها الملقاة على أطراف أبو نصير. لكن الأبواب تتتالى، في مقتبل التذكر.

رأت ليلى شرف النور في «ست الدنيا» وتعد منطقة رأس بيروت وأحياء عمان القديمة مرابع طفولتها التي قلما تذكر نزراً منها، فموت والدتها المبكر أسقط كثيراً من تلك المرحلة العمرية من ذاكرتها: «يجوز صار عندي ردة فعل نفسية بأن لا أتذكر ما كان قبلا». تسترجع ليلى شرف، ثاني سيدة تحتل منصب وزيرة في الأردن.

غير أنها تذكر بعد.. وبعد، مشوار حياة يندر أن يتكرر.

قصتها مع «أرض العزم.. أغنية الظبا» تبدأ من حكاية والدها الدكتور سليمان النجار الذي تخرج طبيباً من الجامعة الأميركية العام 1917 وعمل في السودان طبيباً مع الإدارة البريطانية هناك، بعدها شد الرحال إلى الأردن، وصار رئيس أطباء الجيش العربي وأول رئيس عربي للخدمات الطبية بعد جلاء الإنجليز.

تلقت ليلى علومها الأولى في عمان في مدرسة «جردينة» إلا أن مرض ثم وفاة الأم اضطر العائلة للعودة الى بيروت. هناك التحقت بالمدرسة الأهلية حتى أنهت البكالوريا اللبنانية والفرنسية.

بدايات وعيها السياسي تشكلت بعيد منتصف الخمسينات، حيث قاربتها في المدرسة الأهلية زميلتاها «الممثلة الشهيرة نضال الأشقر وشقيقتها أمل»، اللواتي كن ينتمين الى الحزب القومي السوري، لكن وعيها الحقيقي تشكل في بدايات دراستها الجامعية في الجامعة الأميركية عندما انتمت لحركة القوميين العرب. التقت آنذاك عدداً من القيادات الذين صار لهم صيت مدو في السنوات والعقود التالية: جورج حبش، وديع حداد، وحسن الزيات وآخرين.

واحدة من أهم ذكرياتها عن تلك الفترة لقاؤها بالرجل الذي صار زوجها المرحوم الشريف عبد الحميد شرف في النادي الثقافي العربي الذي كان واجهة حركة القوميين العرب.

لم تلبث أن انفصلت عن «القوميين العرب» أثناء دراستها للماجستير بسبب توجه الحركة أكثر فأكثر تجاه اليسار، وفي الوقت ذاته عملت في تلفزيون لبنان والمشرق محررة في قسم الأخبار ومذيعة لبعض البرامج السياسية والعلمية .

اقترنت بالشريف عبد الحميد شرف في باريس بعيد تخرجها من الجامعة الأميركية وعادت الى عمان هذه المرة عقيلة لوزير الإعلام في حكومة وصفي التل 1965.

لم يلبث الزوجان أن شدا الرحال إلى الولايات المتحدة غداة تعيين عبد الحميد سفيراً في واشنطن في أعقاب حرب 1967. ومن ثم انتقلا إلى نيويورك حين صار مندوب الأردن الدائم بالأمم المتحدة. عن المرحلة الأميركية في حياتها تقول: «كانت غنية جداً، أميركا أيامها كانت ذات أخلاق، تصطرع فيها أفكار عديدة ثقافية واجتماعية وسياسية، أما أميركا الآن فأنا لا أعرفها». غير أنها لا تخفي سعادتها بأن «ولديها ناصر، وفارس تربيا في جو كهذا».

وتصف زواجهما بأنه كان «مشاركة وتفاعلاً فكرياً دائماً» .

العودة الى عمان التي «لا بد منها مهما طال السفر»، حدثت بعد عشر سنوات، فقد عين الملك الراحل الحسين عبد الحميد رئيساً للديوان الملكي.

شكل عبد الحميد شرف حكومته يوم 19 كانون الأول 1979، التي شهدت دخول أول امرأة هي انعام المفتي، وأوجد بيانها الوزاري حالة من الجدل بشأنها، خصوصاً ما تعلق منه بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. «عبد الحميد حمل معه آراء فكرية للحكم، ولم يأت فقط ليحتل منصب والسلام» تقول أم ناصر.

لكن وفاة رئيس الحكومة المفاجئة في 3 يوليو /تموز 1980 أعادت الكثير من الأمور الى المربع الأول. وتركت ليلى أسيرة للحظة ما تزال تسكنها حتى الآن. «راح يصير لرحيله ثلاثون عاماً، وبعده، كأنه امبارح» تعلق بنبرة يخنقها الأسى.

عينت ابان حكومة مضر بدران الثالثة عضواً في المجلس الوطني الاستشاري، وأثار خطاب لها في المجلس قالت فيه «لا نقدر أن نتعامل مع المجتمع الأردني مثلما كان عليه الحال قبل 40 عاماً، وإنما يجب أن نتعامل معه بالواقع الجديد» انتباه وزير الإعلام عدنان أبو عودة الذي اتصل بها قائلاً إنه «سيبث دقيقتين فقط من خطابات كل عضو في المجلس، أما خطابها فخمس دقائق».

وحين تناهى خبر الخطاب الى الملك الحسين طلب أن يبث كاملاً.

عند تشكيل حكومة أحمد عبيدات يوم 10 /01 /1984 طلبها الملك الراحل، وسألها إن كانت تقبل إن تتولى حقيبة الإعلام، فاستأذنت بالقول: «أنا أؤمن بحرية الصحافة». فأجابها: «ومن قال لك إننا مختلفان.. على بركة الله».

لكن مشوار الوزارة لم يكتمل مع ليلى شرف، التي ترى أن «قوى معينة ولوبيات تشكلت لعرقلة عملها». ولم تلبث أن قدمت استقالتها المدوية، بعد محاولات للتدخل في حرية الصحافة أثر الجدل الذي استعر بشأن العشائر ودورها.

فور علمها بنية الحكومة «ضبط الصحافة» قررت الاستقالة، وفضلت أن تركب سيارتها الخاصة وليس تلك المخصصة لها كوزيرة : «لكي لا أتحمل جميلة حدا». وذهبت الى البيت لتكتب الاستقالة التي أعلنت أنها جاءت «احتجاجاً على السياسة الإعلامية ورفضها للتراجع الإعلامي الذي وصلت إليه الصحافة والتلفزيون».

«كنت غاضبة كثيراً وبديش أحكي، واضطررت لنشر الاستقالة، لكي لا يقولوا :امرأة وفشلت».

وكان مثيراً أن أياً من الصحف الأردنية لم تنشر نص استقالة وزيرة الإعلام، لكنها نشرت في الخارج، وصدرت صحيفة «القبس» الكويتية في اليوم التالي للاستقالة بعنوان لافت كتبه الزميل عبد الله العتوم «الحكومة الأردنية تجتمع لأول مرة بلا شرف». وقيل أيضاً بشأنها أنها كانت «الرجل الوحيد في الوزارة».

«لو عادت تلك الأيام برضه بستقيل، لأنني إذا لم أستقل لا أكون أنا» .تجزم ليلى شرف بعد مضي كل هذه السنوات.

لكن موقفها الداعم لحرية الصحافة يثير جدلاً حول أسباب قبولها عضوية مجلس إدارة الاذاعة والتلفزيون الذي وصف الكاتب فهد الخيطان سقف الحرية فيه بأنه «لم يتراجع فحسب وإنما انهار تماماً». «متوقدة الذهن ، ديناميكية، هادئة غير أنها كقوس مشدود على استعداد تام للانفجار اذا ما مس أحد طرفها» يصفها مقرب منها.

ويجادل وزير إعلام أسبق بأنها «عروبية، مثقفة، وجادة» ويعزو عصبيتها الى كونها «تحب أن تفعل كل شيء بشكل صحيح بنسبة 100 بالمئة ولا تقبل النقص أو الإهمال».

رجعت ليلى شرف كعضوة في مجلس الأعيان عدة مرات وشاركت في لجنة الميثاق. ولطالما أمضت أوقاتاً حلوة بمعية الملك الحسين والملكة نور : «أعتقد أن الملك الحسين كان ظاهرة فذة في العالم العربي، لأن العمق في إنسانيته غير موجود في أي زعيم آخر، ولديه قابلية خاصة للترفع عن الصغائر، وعلاوة على ذلك، يتميز بفكر استراتيجي ثاقب».

..أحياناً حين تصدح الموسيقى الكلاسيكية «باخ وموتزارت وقليل من بيتهوفن في أجواء بيتها»، وتأوي الى فراشها متأبطة كتاباً، تستذكر أن أبوابها ما تزال مشرعة على الآتي، وعلى غائب أطال النأي والترحال «حتى بكى من شوقه الوتر».

ليلى شرف: أطلقت شرارة حرية الإعلام
 
27-Mar-2008
 
العدد 19