العدد 18 - كتاب
 

ماذا ينتظر شاغل البيت الجديد؟. يتطلع أن يصبح البيت أليفاً.أن تنشأ ذكريات له ولأفراد العائلة فيه. أن ينبض المطبخ مثلاً بعبق خصوصي، لا برائحة السيراميك والبلاستيك والخشب.خلافاً لأية سلعة أخرى، يتطلع شاغل البيت الجديد لأن يتقادم البيت،لأن يمتلىء بالحياة، ويغدو سكناً للنفس والبدن، لا مجرد أسقف وأبواب جدران.

أحد مصادر السعادة أو الصفاء النفسي، أن يمضي المرء حياته في بيت واحد. بيت يدل على صاحبه وعلى العائلة. يحمل قسمات من شخصية صاحبه: من ذوقه وخياراته، يشع بذكريات يتدفأ بها صاحبها في مساء العمر أو خريفه. ذلك يبدو مجرد ترف وتهويمات هذه الأيام، وأحياناً لا ضرورة لازمة له!. إنها ضريبة الحياة الجديدة.

يبدأ الساكن الجديد كل مرة من الصفر في تنظيم علاقته بالمحيط: بالبيئة والجيران والمشهد العمراني.ويشقى عارفوه في السؤال: أين حط أخيراً. يبدو هؤلاء في المسكن الجديد مجرد زوار وفضوليين، لا أصدقاء قدامى بعدما تغير المشهد الذي يألفونه، وبات صاحبهم غريباً و"مختلفاً" وسط المشهد الجديد، حتى لو بدا سعيداً بعدما "توفق في هذا المسكن"..

أجيال جديدة تنكر ذلك.

من حق الناس السعي لتحسين أحوالها والعثور على مسكن أفضل. لكن الجيل المكتهل يكتم مكابداته من وطأة التغيير المستمر. كأن يتم استقبال مولود كل مرة في بيت آخر. كأن يفقد الابن أو الابنة صداقات الجيرة التي نشأت في البيت السابق، أو خسارة مشاهد مألوفة هناك: شجرة تجيب بصمت على التحيات المكتومة لأهل الحي، بائع اعتاد عبور الحي.. سيارة غريبة المظهر تجثم في الشارع القريب، وتضفي عليه طابعاً خاصاً.

أجيال صاعدة تنكر ذلك، وترى في التجديد قيمة بحد ذاتها.

أزمة السكن عندنا في وجه من وجوهها، ناجمة عن صعوبات اقتصادية، وفي وجه آخر هي نتيجة حتمية لمرحلة انتقال وزحف نحو المدن، علاوة على بناء الأبناء حياة مستقلة لهم، وفي وجه ثالث تقترن بحمى الاستهلاك والتباهي الاجتماعي.

الحصيلة أن مفردات ومكونات الألفة المعهودة تتبدد وتحل مكانها مقومات أخرى. في الحياة الحديثة يصنع المرء بنفسه،بخياراته الحرة مصادره الخاصة للألفة، لتزجية أوقات الفراغ، للتفتح الذهني والعاطفي، خارج البيت أو داخله لا فرق، وبأقل قدر من عون الجماعة له. إنها ضريبة لا مفر من التعامل معها.

مضى الزمن القديم.تغيرت الحاجة الى البيت لدى غالبية جيل اليوم، فالحاجة تتجه الى مسكن كريم ومعقول،لا أكثر أو أقل. لم يعد البيت موطن ذكريات وتأثيث نفسي. بات مجرد ملاذ ونقطة انطلاق،وعنوان غالباً ما يكون مؤقتاً وقابلاً للتغيير.

محمود الريماوي: بيوت لترحل منها..!
 
20-Mar-2008
 
العدد 18