العدد 17 - بورتريه
 

محمود الريماوي

ما تميز به في حياته المهنية من روح عملية وجدية تبلغ حد الصرامة، ونزوع الى الاحتراس والاقتصاد في البوح، ظل يطبع شخصية مضر بدران (74 عاماً) في منصب كبير أمناء جامعة وعضو لجان ملكية لبناء ثلاث جامعات،وفي موقعه عضواً في مجلس الأعيان ثم كشخصية اقتصادية .ولمن تستهويهم حبكات الكلام المرسل، فقد بدأ مضر باشا حياته وأمضى شطراً كبيراً منها كمسؤول أمني منضبط وحديدي،وانتهى مطاف حياته المهنية للعمل في استثمار الحديد .. وهو قطاع حيوي في مرحلة الطفرة العمرانية التي شهدها الأردن منذ مطلع التسعينيات وما زالت مستمرة بوتيرة أو بأخرى حتى أيام الناس هذه.

على أن جيل هذه الأيام المنقطع عن الشأن العام بالكاد يعرف الباشا. يفاقم من ذلك أنه لم يكتب سيرته السياسية والراجح أنه لن يفعل، أسوة بغيره من المسؤولين الأردنيين الذين يحتفظون بالتاريخ السياسي مكتوماً وليس معلوماً ما هي الحكمة من ذلك.

الباشا مضر جزء حيوي من هذا التاريخ، فقد شكّل أربع حكومات وعاصر أزمة اجتياح الكويت،وقبلها أزمة بنك البتراء(الجلبي رفع عليه دعوى أمام محكمة أميركية) كما شهدت حكومته الرابعة والأخيرة بداية موجة الإصلاح الاقتصادي وتخفيض الإنفاق الحكومي بعد هزة انخفاض سعر الدينار مقابل الدولار، علاوة على توثيق العلاقة الرسمية بالإخوان المسلمين وتأزم العلاقة مع سورية ثم انفراجها، وخلال ذلك شاع نبأ محاولة اغتيال استهدفته العام 1981 وقف وراءها رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع. وهي مفاصل هامة انعكست لاحقاً على مسار الحياة العامة في البلد.

في المحطة الأخيرة من حياته المهنية، ارتبط اسم مضر بدران بمرحلة التحول الديمقراطي وحسن تعامله مع أول مجلس نيابي منتخب في المرحلة الجديدة ..وقد اختتم بها حياته كقيادي في السلطة التنفيذية . وصورته ما زالت ماثلة في الأذهان يخاطب بحرارة وأحياناً بمرارة مجلس نواب نصفه من الإسلاميين، واليساريين، والقوميين، ويتعهد بتبييض السجون من المعتقلين السياسيين، وإعادة جوازات السفر لمن سحبت منهم، وعودة المغادرين لأسباب سياسية، وإعادة مفصولين من العمل للأسباب نفسها، وإطلاق حرية العمل الحزبي، وقد أوفى الرجل بوعوده، مستظلاً بإرادة سياسية عليا بهذا الاتجاه.

عبر الباشا عن هذا التوجه، وهو الذي أمضى شطراً كبيراً من حياته في المؤسسة الأمنية، وعلى رأسها في حقبة أوامر الدفاع والأحكام العرفية، وهي حقبة طويلة امتدت لثلاثة عقود ونيف. ولم يكن للحريات العامة نصيب او محل من الاهتمام والاعتبار الرسميين في تلك الحقبة، وقد شاءت المقادير أن يكون مثلاً من أغلق جريدة «الرأي» لمرتين هو من أعاد اليها أصحابها بعد أن تم تبييعهم لأسهمهم من طرف لجنة أمن اقتصادي وعلى رأس العائدين محمود الكايد،، ثم صديقه وصديق العائلة محمد العمد الذي يتشارك أبناء لمضر بدران مع العمد وأبنائه في ملكية شركة مساهمة للإسكان.

في حكوماته الأربع( 1976ـ 1991) هناك ما يستحق التوقف عنده. لقد خلت حكومته الأولى والثانية من اي وجه نسائي، ما يعكس نزوعاً محافظاً لدى لرجل، وما يفسر وإن جزئياً الاقتراب المتبادل بينه وبين الإخوان المسلمين الذي تأسس تاريخياً على مواجهة المد القومي واليساري في المنطقة، وعلى الاعتراف بالتزكية الشعبية لهم في الانتخابات النيابية. فيما شهدت حكومته الثانية نشوء أول وزارة للثقافة مع جمعها بحقيبة الشباب وتولاها آنذاك الشريف فواز شرف. و شهدت حكومته الثانية إنشاء أول وزارة لشؤون الأرض المحتلة عهد بها آنذاك للمرحوم حسن ابراهيم، وقبل أن يعيد فك الارتباط هذه الوزارة،الى دائرة ملحقة بوزارة الخارجية. وكانت في الأصل مكتباً تنفيذياً أداره بدران نفسه في العام 1972 في فترة احتدام الخلاف مع منظمة التحرير، حول تمثيل الضفة الغربية وأبنائها.

ما هو أكثر أهمية ويستحق التوقف عنده، ما برهن عليه مضر بدران من حاسة سياسية مرهفة وعمق نظر ومعرفة بقدرات الأشخاص، باختياره وجوهاً وزارية في فريقه لم تلبث بعد سنوات أن انتقلت الى الدوار الرابع على رأس السلطة التنفيذية،و هؤلاء هم: عبدالسلام المجالي، أحمد عبيدات، عبدالكريم الكباريتي، عبدالرؤوف الروابدة، وطاهر المصري . فيما شكل مرجعية سياسية ومصدر «إلهام وإشعاع» لشقيقه الأكاديمي عدنان الذي لم يفته قطار الالتحاق بنادي رؤساء الحكومات، رغم أنه انضم إليه متأخراً بعض الشيء.

بهذا تبدت موهبة ابن المدينة الصغيرة جرش ذي الأصول الفلسطينية البعيدة، بغير استناد لخلفية اجتماعية تقليدية (عائلة ممتدة )، وبدأ حياته العملية في الثالثة والعشرين من عمره بعد تخرجه من كلية الحقوق في جامعة دمشق،فعمل مستشاراً عدلياً في القوات المسلحة عام 1957. ولعل ذلك العام وما اتسم به من صخب سياسي في المملكة كما في المنطقة، قد شحذ مواهب الرجل، وبلور خياراته اللاحقة وأسهم في تشكيل مزاجه وإيقاع شخصيته المنضبطة والصلبة، التي ينأى صاحبها عن الاستعراض والأضواء،ويعكف على العمل والتدبير بصمت، ويشارك في رسم قرارات سياسية واستراتيجية ذات أهمية كبيرة .

من الحياة المهنية العسكرية ـ الأمنية،الى ترؤس الحكومات الى العمل في ظل الملك الراحل الحسين أميناً عاماً للديوان ثم مستشاراً للأمن القومي فرئيساً للديوان الملكي وصولاً لحكومته الأخيرة ( أواخر 1989 حتى منتصف 1991)التي هيأت لتقنين التحول الديمقراطي المستمر، وأفرجت عن قلوب الناس وألسنتها، ورفعت ضيماً عن كثير منهم .. فقد نجح مضر بدران في البرهنة ليس فقط على أنه رجل دولة طويل الباع، بل باعتباره عموداً من أعمدة الدولة وركناً ركيناً من أركانها، بشراكته الفاعلة في حقبة التثبيت على حساب المشاركة السياسية، ثم في مرحلة الانفراج التي ننعم بثمراتها مع ثغرات ليست هينة فيها. وهو ما قد ينسحب عليه القول المحفوظ وبعيداً عن التأويل الديني وبالمدلولات الدنيوية فحسب : أمراؤكم في الجاهلية أمراؤكم في الإسلام.

..

مضر بدران :من رجل الدولة الحديدي..الى رجل الحديد
 
13-Mar-2008
 
العدد 17