العدد 16 - أردني
 

هيا صالح

«ليس عندنا آباء في الحركة الأدبية الأردنية»، هذا ما يقول به الروائي والقاص يوسف ضمرة، فيما يؤكد الشاعر يوسف عبد العزيز خلاف ذلك: «ليس هناك كتابة مخلوقة من العدم، فبالضرورة بمكان أن تكون هناك كتابة مؤسِّسِة وآباء روحيون».

تختلف الآراء وتتعدد وجهات النظر حول وجود ما يمكن أن نطلق عليه «ظاهرة الأب الأدبي» على الساحة الأردنية، فبينما يرى بعضهم أنه لا وجود لمثل هذا «الأب» لأسباب تبدو مقنعة، يؤكد آخرون أن «الأب في الأدب موجود عموماً» وإن كان تأثيره يظهر بصور شتى ،ويتجلى في نصوص الأجيال اللاحقة من وراء حجاب.

ويبقى في الأصل، أن لكل تجربة إبداعية هواجسَها ورؤيتها وتقنياتها ومفرداتها الخاصة، لكنها في الوقت نفسه لا تنفصل عن التجارب السابقة عليها.فهناك نصوص تسعى لاجتراح خط تجديدي حداثي،وهناك نصوص تنشغل بالأبعاد الملحمية والأسطورية، وهناك نصوص تعتمد رؤية فلسفية إنسانية.. وهي جميعها تعد امتداداً لتجارب سابقة،وهو ما يعبّر عنه الشاعر "السبعيني" إن جاز الوصف، يوسف عبد العزيز بقوله بـ"التجاور لا التجاوز".

رؤية المبدع تتداخل فيها مفردات شتى،تتنوع وفقاً لبوصلة المبدع الزمانية والمكانية وموقعه الاجتماعي والمؤثرات الحياتية اليومية المتلاحقة التي يتعرض لها، وهو ما يفضي إلى اختلاف المفردات الإبداعية لكل جيل من الأجيال الأدبية من جهة، وتلاقيها عبر مؤثرات تراكمية من أجيال سابقة من جهة أخرى.

من هنا، يتطلب الحديث عن «الأب» في الأدب الأردني حركةً أدبية راسخة الجذور، لا حالات إبداعية متفرقة، قد لا يكون لها ذلك الأثر في جيل الإبداع اللاحق لها، وتفاعله معها بما يمنحه الدافعية والإقبال على الكتابة. من هذه الزاوية يتحدث الشاعر غازي الذيبة، عازياً غياب أثر الأب في الأدب الأردني إلى الطبيعة الجغرافية والأوضاع السياسية في الأردن، خصوصاً «موجات الهجرة الفلسطينية والحرب على العراق»، لافتاً إلى أن «الأردن لم يؤسس لخلق آباء في الأدب»، وهو ما يشير إليه الروائي هاشم غرايبة أيضاً بتأكيده أن «انتماء الساحة الأردنية كان للأدب العربي عموماً».

وهذا أيضاً ما يراه عبد العزيز حول التجربة الشعرية بقوله: «إننا في الأردن متفاعلون إلى حد كبير مع القصيدة العربية التي تُكتب في البلاد العربية جميعها»، مؤكداً أنه ليس هناك من قُطْريات في الشعر العربي، وليس هناك من حدود سياسية.. «هناك شعر عربي حسْب ينتمي إلى هذه الأمة العربية العظيمة ويعبّر عن طموحاتها».

القطيعة مع جيل الآباء على الساحة الأردنية هو ما يؤكده الذيبة الذي يرى أنه ليس بالضرورة أن تكون الأجيال المؤثرة في الشاعر ضمن رقعة جغرافية محددة، فقد يتأثر المبدع بكاتب لا يقع ضمن محدده الجغرافي، لافتاً إلى أنه لا يوجد حواجز تحول دون التواصل الإبداعي، و"من يدّعي ذلك فهو واهم". لكن «القطيعة» كما يحددها الذيبة، لا تعني عدم اطلاع الجيل اللاحق على منجز الجيل السابق، وإنما مدى التأثير الذي تتركه هذه القراءة في منجز الجيل اللاحق، يقول في هذا السياق: «تأثرت ببعض الشعراء الأردنيين لكن ليس تأثيراً أبوياً. لقد تأثرت بشعراء عرب كثيرين، ولم تكن هناك بلاغة تأثير حقيقية من التجارب الأردنية في تجربتي.. لم يكن لها تلك السطوة المتوقَّعة عليّ»، لافتاً إلى أنه «قد يكون هناك آباء من الثقافة العربية والعالمية، لكن ضمن الساحة الأردنية قلما نجد من يعترف بالأبوة الأدبية لأديب عباسي أو عرار حتى بمؤنس الرزاز وغيره من الأدباء»، وهو ما يلفت إليه غرايبة في إطار حديثه عن تجربة عرار الذي عدّه غرايبة «ظاهرة أثرت في الأجيال اللاحقة كافة»، رغم أنه يميز بين الكتابة عن عرار والتأثر فيه، مؤكداً: «لا نستطيع أن نقول إن هناك من سار على خطى عرار بالمعنى الدقيق للكلمة».

ولعل الانتشار المحدود للجيل السابق لجيل السبعينات، كما يرى ضمرة، أحد الأسباب التي أدت إلى عدم وجود آباء أدبيين في الأردن، مشيراً في سياق متصل إلى جيل السبعينات الذي ينتمي له، وهو الجيل الذي كان له، بحسب ضمرة «دور أكبر في التأثير بالأجيال اللاحقة»، وهو ما يتوافق مع ما ذهب إليه عبد العزيز الذي ينتمي أيضاً للجيل الشعري السبعيني بقوله: «لقد تأسس جيلنا على قصيدة المقاومة»، وهو الجيل الذي نهل، بحسب عبد العزيز، من المدرسة الشعرية العراقية ممثلةً بروادها الكبار مثل السياب والبياتي وسعدي يوسف ويوسف الصائغ، وتفتح وعيه على قصائد محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، مضيفاً: «من هذه التوليفة خرجت موجة شعر السبعينات في الأردن».

وجود «الأب» لا يقتصر على الساحة الأردنية أو العربية، فهناك عدد غير قليل من المبدعين تأثروا بكتاب عالميين، فالشعر مثلاً، كما يرى عبد العزيز «ينتمي إلى التراث الإنساني العظيم». وأحياناً يرتبط تكوين الشاعر بالحياة وبكل ما فيها من زخم. يؤكد هذا الأمر القاص والكاتب المسرحي مفلح العدوان الذي يقول: «قضية الآباء لا تنحصر بشخص أو بكاتب أو مبدع» فأحياناً قد يكون الأب مرجعية أسطورية أو دينية أو موروثاً إنسانياً. ويشير العدوان إلى أن هناك مرجعيات كثيرة تضيف الكثير لذاكرة المبدع وتجعله يتفاعل معها أثناء فعل الكتابة. ويشير العدوان إلى ما يمكن تسميته «الوحدة المرجعية» ويوضح ذلك بقوله: «قد أتأثر بالمكان عند عرار، هذا يعني أنني تأثرت بالمكان كما تأثر به عرار».

ومن جهته يرى الروائي عبد السلام صالح أن «الأب الأدبي» هو ذلك الذي يستطيع أن يتثاقف ويتواصل معه وجهاً لوجه، لكنه يرى أن لا وجود لمثل هذا الأب على الساحة الأردنية، عازياً ذلك إلى أن «الجو الثقافي ليس حميماً أو دافئاً» حتى يخلق أباً أدبياً من جيل سابق يؤثر بفاعلية على الجيل اللاحق، مضيفاً حول تجربته بشكل خاص: «كنت أتواصل مع إلياس فركوح كروائي مهم، لكن إلياس لم يشكل تياراً أو مدرسة معينة في الرواية، بالإضافة إلى أنه كاتب مقل. أتمنى أن يراكم تجربته ليكون أباً للأجيال اللاحقة».

التواصل والانقطاع بين الأجيال الأدبية على الساحة الأردنية، عملية ليس من السهل رصدها وتتبعها بدقة، إلا أن ثمة حقيقة لا يمكن نكرانها تتمثل في أن الأجيال المتلاحقة هي امتداد لبعضها بعضاً، ولا يوجد هناك قطيعة بالمعنى الحرفي للكلمة، قد يكون هناك محدودية للتأثير بين الأجيال تحول دون بروز «أب أدبي» على الساحة الأردنية، وقد يكون هناك نكران من الجيل اللاحق لهذا التأثير، وقد ينفتح معنى «الأب» على فضاءات تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية..

وفي السياق نفسه يؤكد عبد العزيز أن هناك من يزعم أن القصيدة المكتوبة ينبغي أن تكون منبتّة عما قبلها، وفي هذا، كما يرى، مغالطة كبيرة «لا يوجد هناك هدف من ورائها سوى تلميع اسم كاتبها» بحسب عبد العزيز الذي يضيف: «الذي يريد أن يميز اسمه وكتابته عن الآخرين هو الذي توازي قامته الإبداعية قامات الأسلاف، هؤلاء الذين حققوا إنجازات خاصة تركت بصماتها في جميع مراحل الكتابة الشعرية».

ثمة حادثة تروى عن برنارد شو، فقد سُئل بعد أن حقق حضوراً وشهرة عالمية: "مَن أفضل، أنت أم شكسبير؟»، فرد دون تردد: «أنا». استغرب محاوره من هذا الجواب وقال: «أنت؟! أقول لك شكسبير». فردّ شو: «نعم أنا أفضل منه.. أنا قرأت شكسبير، وهو لم يقرأني".

قد يتوهم القارئ المتعجل أن برنارد شو امتلك نظرة فوقية استعلائية على أستاذه، والحقيقة غير ذلك، إذ في هذا المثال ما يدل على التقدير والاحترام لإبداع شكسبير، واعتراف شو بفضل أستاذه.

بين التواصل والانقطاع: الأجيال الأدبية على الساحة الأردنية
 
06-Mar-2008
 
العدد 16