العدد 16 - أردني
 

السجل- خاص

في غالبية الأزمات، المواجهات والخلافات التي وقعت بين النقابات المهنية والحكومات المتعاقبة ترجع الأخيرة وقودها إلى تدخل "غير قانوني" من جانب النقابات في الشأن السياسي المحلي والعربي.

وثمّة اتهامات حكومية جاهزة بتقاطع أدوار النقابات مع الأحزاب، في تداخل ترسخ خلال حقبة الحظر الرسمي (1957-1989) حين تخندق الحزبيون وراء الهيئات النقابية المرخصة.

هذا السجال يدور في حلقة مفرغة منذ عقود وسط تراشق بالشتائم وحملات متبادلة دون أن ترسم أطراف المعادلة علاقة صحية تبادلية.

احتدت المواجهات بشكل جلي في الأزمة التي وقعت بين النقابات وحكومة فيصل الفايز عام 2005، حين منعت وزارة الداخلية آنذاك النقابات من تنظيم أنشطة سياسية أو عامة. وتوّجت الإجراءات الرسمية بمشروع قانون "تقييدي" سحبته حكومة نادر الذهبي من مجلس النواب، يحظر صراحة العمل السياسي في النقابات مهما كان نوعها أو شكلها.

إختلاط السياسي بالمهني لدى النقابات المهنية يعمّق من ضبابية دورها إذ تطغى القضايا السياسية والقومية على حساب تطوير المهنة، كما تتقاطع أدوارها مع أحزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني.

خلال تلك الأزمة انتقدت الحكومة هيمنة لون واحد، «الإخوان المسلمون»، على النقابات «تسيّرها باتجاه تحقيق أهدافها وتستفيد من إمكانياتها المالية والبشرية لتحقيق ما يعجز عنه الإخوان» خارج الأطر النقابية.

هذا ما يؤكده وزير الداخلية آنذاك سمير الحباشنة في مقابلة مع جريدة «الغد» قبل أسبوعين، حينما قال إن تقنية مشروع قانون النقابات «اعتمدت على فكرة التبديل، إذ أريد منه كسر صدفة (قشرة) السيطرة على النقابات من قوى سياسية بعينها». يقول الحباشنة: « لدينا 36 حزبا، إلا إن النقابات لا تعمل ولا تعبر إلا مع أحزاب المعارضة. كنت أتمنّى أن تدعو النقابات الأحزاب السياسية الإصلاحية أو الوسطية للمشاركة معها في نشاطاتها». ويضيف: «أعتقد أن القضايا السياسية التي تعمل بها النقابات هي فقط العمل مع أحزاب المعارضة في كل مع ما يختلف مع الدولة الأردنية».

التأثير الحزبي على النقابات استعرضته وثيقة «الأردن أولا» إذ ورد في توصيات صدرت عنها عام 2002: «لم تتحقق النبوءة التي افترضت بان العودة الشرعية للأحزاب (عام 1992) ستعيد توزيع الأدوار بصورة صحيحة، ذلك أن الكثير من الفعاليات وجدت في بنية النقابات ونشاطاتها بديلا للمنابر الحزبية». يضاف إلى ذلك الدعم «الذي توفره النقابات للمواقف والانحيازات الحزبية خصوصا في ظل التحولات السياسية العميقة ومعاهدة السلام، ما زاد في تعكير الأجواء بين النقابات والحكومات وداخل النقابات نفسها».

وزير الإعلام الأسبق الكاتب الصحافي صالح قلاب يرى في إحدى مقالاته «أن النقابات المهنية بقيت تنتدب نفسها للقيام بدور الأحزاب، وبقيت تعمل على أنها قوى المعارضة السياسية الوحيدة. كل هذا على نحو مخالف للقوانين وعلى حساب مهامها النقابية التي من المفترض ألا تكون لها مهام غيرها».

يشخّص القلاب «مشكلة لجان مقاومة التطبيع النقابية لتي يتحكم بها حزب الإخوان المسلمين، ب»أنها لم تلتزم بحدود حرية التعبير، فأحلت نفسها محل الدولة، وصاغت لنفسها قوانين خاصة فتحولت إلى ما يشبه محاكم التفتيش».

عام 2002، فتحت الحكومة النار على النقابات المهنية، وتمكنت بحكم قضائي من حل لجان مقاومة التطبيع مع إسرائيل، وحل مجلس نقابة المهندسين كبرى النقابات المهنية. تضم «المهندسين» 71 ألف منتسب فيما تزيد موجوداتها عن 300 مليون دينار. مجلس نقابة المهندسين يخضع لتحالف من الإخوان المسلمين وحزب الوحدة الشعبية (يسار) وقوميين، في حين يسيطر على مجلس نقابة المهندسين الزراعيين الإخوان ومستقلون.

على أن نقابيين يرفضون اتهامات حباشنة والقلاّب. يذهب بعضهم إلى التذكير بأن الرجلين كانا منخرطين بالعمل النقابي المؤدلج حزبيا قبل مرحلة الإستيزار.

يؤكد أحد النقابيين أن «النقابات المهنية لا تأتمر من أي حزب أو جماعة سياسية، بل تمارس عملها وفق القانون، وقرارات هيئاتها العامة ومجالسها المنتخبة ديمقراطيا».

نقيب المحامين صالح العرموطي يؤكد أن» الادعاء بسيطرة لون واحد على النقابات المهنية لا يمت للواقع بصلة. فهناك مشاركة من مختلف ألوان الطيف الفكرية في مجالس النقابات المهنية كافة ضمن قاعدة تداول تقديم الخدمة لمهنتهم وأعضاء وعائلات المنتسبين للنقابات المهنية».

يشكل النقابيون وعائلاتهم في 14 هيئة 20 بالمئة من سكان الأردن المقدر عددهم بخمسة ملايين و800 ألف نسمة.

يتفق معه رئيس لجنة الحريات في نقابة المهندسين ميسرة ملص، إذ يؤكد أن «مجالس النقابات المهنية باستثناء نقابتين لا يسيطر عليها أي حزب وحتى النقابتين التي يتكون غالبية مجلسيهما من الإسلاميين المنظمين يتواجد معهم أعضاء من أحزاب أخرى ومستقلين».

يعتبر ملص أنه «مهما كانت سيطرة أي حزب على مجلس نقابة فان رقابة ومتابعة أعضاء الهيئات العامة للنقابات لا تسمح لأي مجلس بتسخير النقابة لخدمة الحزب».

يؤيده في الرأي أمين سر نقابة الأطباء باسم الكسواني، الذي يرى أن «الأحزاب لا تسيطر على النقابات رغم وجود أعضاء لها في مجالس النقابات».

يوضح الكسواني أن قرارات النقابات وخصوصا في الجانب العام والوطني «تصدرها الهيئات العامة التي تضم في صفوفها مختلف ألوان الطيف السياسي، ويطغى عليها المستقلون».

ويصر على أن «النقابات لا تأخذ أوامرها من أي جهة، ولا يستطيع أي طرف سياسي جرّها إلى مواقف معينة، وخصوصا أن غالبية أعضاء مجالسها ليسوا من لون سياسي واحد».

ترتفع يافطات داخل مجمع النقابات بعناوين سياسية: «مقاطعة منتجات غربية، ومقاومة التطبيع مع إسرائيل (...)»، في حين يحتضن ذات المجمع العديد من الأنشطة السياسية ومؤتمرات الأحزاب، والتظاهرات السياسية الحاشدة، ويقف جنبا إلى جنب مع الأحزاب في رفع الشعارات السياسية.

لكن نقيب الجيولوجيين السابق جورج حدادين ينفي تسييس النقابات ويرى في المقابل أنها «تلعب دورا سياسيا، بل تشارك في الحياة العامة باعتبارها جزءا من المؤسسات الوطنية». ويؤكد حدادين أيضا أنها «لن تقف موقف المتفرج، إذ يجب الفصل بين دور الأحزاب في العمل السياسي ودور النقابات»، لافتا إلى أن الحكومة «أقصت النقابات المهنية عن الإسهام في خطط التنمية وهو ما دفعها إلى ممارسة أنشطة لا تتصل بشكل مباشر بالمهنة».

في السياق نفسه، يرى عضو نقابة المحامين راتب الجنيدي أن «ممارسة العمل السياسي حق لكل مواطن صانه الدستور. لكن في الأساس يجب أن تلتفت النقابات إلى المهنة التي أوجدتها وتعمل على تطويرها وتدريب أعضائها».

وكان أمين عام حزب دعاء (الوسطي) محمد أبو بكر قال في تصريحات صحافية إن ضعف الاحزاب كان وراء «استمرار النقابات المهنية في أداء دورها السياسي المميز والنشط لتشكل حالة بديلة للأحزاب».

جدلية التداخل النقابي- الحزبي تلقي بظلالها على العلاقة مع الحكومات منذ رفع الحظر عن الأحزاب. شهد العقدان الماضيان معارك جانبية، كر وفر، في مسعى حكومي لتحجيم النقابات إلا أن المواجهة لم تحسم، والجميع خاسرون.

**

فولكلور على الطريقة الرسمية

حدث هذا في الأردن في زمن مضى، في عام 1997. ففيما الدولة تتبنى موقفاً رسمياً يشجع على تنمية الحياة الحزبية، بدءاً بالدستور، مروراً بالميثاق الوطني، وانتهاء بقانون الأحزاب السياسية (لسنة 1992)، يخرج وزير الداخلية آنذاك نذير رشيد "شاهراً سيفه" ضد الأحزاب التي هو مرجعيتها بموجب القانون.

كان يريد القول إن الأحزاب ضعيفة، ليخول لنفسه مصادرة حقها في التعبير عن نفسها، وحقها في "المشاكسة"، فاستعار من التعابير أكثر ما قد يغري الأردني في تجشم عناء السفر حتى ولو في "بكم"، فقال إنه قادر على جمع كل الحزبيين على منسف، وأنهم كلهم لا يتجاوزون حمولة "بكم". مع ذلك لم يتم الاعتذار عن التصريح!

هذا مثال على ما يسمى "ذهنية الخمسينيات"، أكثر مما له صلة بكون الرجل مدير مخابرات سابق. ذلك لأن اسم مدراء مخابرات آخرين اقترن بأكثر المراحل السياسية انفراجاً وتقدماً. مضر بدران مدير المخابرات الأسبق قاد بنجاح أول حكومة تتشكل بعد عودة الحياة البرلمانية عام 1989. وفي الحقبة نفسها، رأس أحمد عبيدات مدير المخابرات الأسبق كذلك بجدارة اللجنة الملكية (60 عضواً) التي أعدت الميثاق الوطني الأردني في حزيران/ يونيو 1991.

“جدال عقيم” يدور في حلقة مفرغة والكل خاسر : تداخل النقابي مع الحزبي يشوش العلاقة مع السلطة التنفيذية
 
06-Mar-2008
 
العدد 16