العدد 3 - أردني
 

اقترع الأردنيون يوم الثلاثاء الماضي لانتخاب ممثليهم في مجلس النواب الخامس عشر. ويرى كثير من المراقبين أن هذه الانتخابات شكلت محطة فاصلة في حياة الأردن السياسية ليس فقط لأن المعطيات تمخضت عن انتخاب ما يعتقد بأنه سيكون أضعف مجلس نواب منذ عودة الحياة النيابية في عام 1989، بل لأنها كرّست جملة من الظواهر السلوكية والثقافية البائسة التي تشير إلى تدهور منظومة القيم الوطنية والدينية التي يفاخر الأردنيون بتمسكهم بها، ويأتي في مقدمة ذلك: استشراء سطوة المال الفاسد، والتسهيلات الممنوحة للمرشحين لنقل سجلات الناخبين، وضحالة المضامين السياسية في حملات المرشحين الانتخابية، وضعف مشاركة الأحزاب والاستعاضة عنها باللجوء للعشيرة والخدمات.

المال الفاسد

شهدت هذه الانتخابات جرأة غير معهودة لبعض أصحاب الأموال على خوض المنافسة الانتخابية بالمراهنة أساساً على شراء الذمم بشتى الوسائل والطرق. ورغم أن الصحافة درجت على تسمية استخدام المال للأغراض الانتخابية بالمال السياسي، فإن هناك من يعترض على هذه التسمية، مثل النائب السابق مصطفى شنيكات، الذي يفضل الحديث عن المال الفاسد والمفسد.

الباحث البرلماني سلمان النقرش يرى أن ذلك يعود إلى تراجع مكانة مجلس النواب في أعين المواطنين، وإلى وصول حشد من النواب للمجلس في دوراته الأخيرة دون أن يكون لهم صلة تذكر بالعمل العام أو بأدوار النائب التشريعية والرقابية. ولذلك لم يعد مقبولاً أن يبقى الإنفاق على الدعاية الانتخابية دون ضوابط وسقوف محددة.

نقل الأصوات

كذلك شهدت هذه الانتخابات توسعاً في التسهيلات الممنوحة للمرشحين لنقل تسجيل مؤيديهم إلى دوائر غير دوائرهم الأصلية دون سند قانوني، لكن الأدهى من ذلك أن جزءاً من عمليات النقل هذه تمت، حسب شهادات العديد من المواطنين، لصالح مرشحين متنفذين حتى الأسابيع الأخيرة رغم الانتهاء من إعداد الجداول الانتخابية منذ عدة أشهر. ومن المعروف أن عشرات آلاف الأسماء المشطوبة التي تحدثت عنها الحكومة مؤخراً، والتي تمت أثناء عملية تنقيح الجداول الانتخابية، ليست سوى جزء بسيط من مجموع الأسماء المرحلّة بصفة غير قانونية. إن قانون انتخاب جديد يجب أن يضع حداً لذلك، إذ لا يعقل أن يكون العنصر الحاسم في نجاح قسم كبير من نواب المجلس الجديد، هو حجم الأصوات التي تم ترحيلها إلى دوائرهم.

شعارات جوفاء

وتميزت هذه الانتخابات بخلو الغالبية الساحقة من شعارات المرشحين من المضامين السياسية ذات الصلة بالتحديات التي تواجه البلاد على الصعيدين المحلي والإقليمي. ومقارنة بالانتخابات النيابية السابقة، فقد انتقلنا من تطرف إلى تطرف. ففي انتخابات 1989 كان هناك تخمة في الشعارات القومية، والآن هناك تخمة في الشعارات التي لا تحمل أية مضامين، وتقتصر في الغالب على إبراز اسم المرشح وصورته. وهناك اعتقاد سائد أن الشعارات السياسية تراجعت لصالح تلك التي تروج للخدمات، لكن هذا ليس دقيقاً، فحتى الخدمات لم تنل قسطها من اهتمام المرشحين.

خراب سياسي

الأًحزاب ومرشحوها غابوا من جهتهم عن معترك هذه الانتخابات، إذ باستثناء جبهة العمل الإسلامي، ليس هناك أي حضور حزبي واضح المعالم. وحتى حين تنجح عدة أحزاب في الائتلاف لخوض المعركة الانتخابية كما هو حال التيار الوطني الديمقراطي، فإنه يكاد لا يلحظ في مناخات الإسناد المالي أو العشائري. هذا في حين أن فلسفة العمل الحزبي تقتضي من الأحزاب أن تشارك بقوة في المعركة الانتخابية بغض النظر عن فرص الفوز، بغية الترويج لبرنامجها وتوجهاتها. فهل تبتهج حكوماتنا الرشيدة المتعاقبة الآن عندما ترى هذا الخراب في الحياة السياسية والذي هو، على اختلاف الدرجات، من فعل أيديها؟ فمن يصدق أن حضور الأحزاب الممنوعة في ظل الأحكام العرفية (قبل أن تجمد ثم تلغى) عام 1989، كان حضوراً حقيقياً وأكثر فاعلية من انتخابات 2007.

خسران الذات

وعلى نحو غير مسبوق، كرست هذه الانتخابات الدور السياسي للعشيرة لملء الفراغ الناجم عن غياب الأحزاب في تأطير وإدارة الحياة السياسية. وحينما ناقشنا زميلنا الدكتور مصطفى الحمارنة عما يميز ترشيحه في الانتخابات، كان جوابه أنه ليس مرشح فئة أو طائفة أو عشيرة، وبالمثل فإن شخصيات مثل السيد هاني الخصاونة رفض الاستجابة لدعوة من عشيرته لخوض الانتخابات. ومقابل قلة من هذه النماذج، تسابق عشرات المرشحين على إعلان فوزهم بإجماع عشائرهم كما لو أنهم ذاهبون لتشكيل مجلس عشائري لا مجلس نيابي يمثل الأمة.

لقد ساهمت الأحزاب في تعزيز هذا الوضع بغيابها عن المشهد الانتخابي تارة، وبسماحها باختلاط الأوراق حين يتخلى مرشحوها عن هويتهم الحزبية طمعاً في فوز تحت مظلة العشيرة. وفي الاتجاه نفسه، فإن بعض من يمتلكون مكانة معنوية في المجتمع كالأكاديميين والمثقفين ينزلقون أحياناً إلى خانة العشيرة الضيقة، مضحين بثقة المجتمع الأوسع بهم.

تساؤلات برسم الإجابة

إن جملة هذه الظواهر ولا سيما منها ما يتعلق بشراء الأصوات، وتفاقم أشكال انتهاك القانون، وتقدم أعداد متزايدة من المواطنين لترشيح أنفسهم وهم لا يمتلكون الحد الأدنى من خبرة العمل العام، وتحول مجلس النواب في نظر كثير من المرشحين إلى منصة للمشيخة أو الوجاهة، وتراجع مكانة المجلس ودوره الفعلي كسلطة تشريعية ورقابية، كلها تؤشر على أن أوساطاً متزايدة من أبناء هذا البلد يبتعدون بالبلاد عن تقاليد تربت عليها في النزاهة والكرامة وعدم المساومة على الموقف والضمير.

لقد دخلنا حقاً دائرة الخطر! لكن هذا الوضع المتردي ليس عقدة أو لغزاً غير قابل للحل. فكل العاملين في الحقل العام يعرفون طرق المعالجة المناسبة. إنها تبدأ بتطوير قانون الانتخاب الذي يعد حجر الأساس في العملية الديمقراطية. لكن لماذا لا تجرؤ الحكومات على تلبية هذا الاستحقاق الوطني رغم التوجيهات الملكية المتكررة لها بضرورة سن قانون انتخاب ديمقراطي؟ ولماذا تتعاقب المجالس النيابية ولا تنتصر لهذا المطلب بقانون انتخاب جديد يضعنا على سكة حياة سياسية عصرية؟ فهل يشكل المجلس الجديد استثناء أم أنه سيلحق بركب المجالس السابقة؟

العملية الانتخابية: خواء سياسي وتدهور في منظومة القيم السياسية والدينية – حسين أبو رمان
 
22-Nov-2007
 
العدد 3