العدد 16 - كتاب
 

كانت حرب طروادة من أكثر الحروب التي خاضها اليونانيون حضوراً في الدراما الأغريقية، وهي قبل أن يستلهمها شعراء مسرحهم الكبار (أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس) في تراجيدياتهم كانت المادة الأساسية لملحمتهم الكبيرة (الإلياذة). ولم يكن الدافع التعبوي وراء اتخاذ هذه الحرب موضوعاً لتلك النصوص الدرامية غائباً عن أذهان مبدعيها، على الرغم من تصدر الوظائف الدينية والمدنية فيها، من خلال مفهومي القدر والحتمية اللذين يفضيان إلى حالة من التبرير المنطقي والتسليم العاطفي بالنظام المهيمن على المجتمع. ولذلك لا نجد إدانة لتلك الحرب، أو تصويراً لفظائعها ومآسيها ولاشرعيتها، كما يفعل الكتاب المعاصرون، بل على العكس نجد مسوغات لها، وتمجيداً لأبطالها ونتائجها، مما يتيح للناقد أن يقرأ فراغاتها، أو المسكوت عنه في خطاباتها ليمسك بذلك الدافع المعبر عن رغبة السلطة، فالمتلقون اليونانيون الذين يقودهم العرض المسرحي خطوةً فخطوة بصورة محتومة إلى الخاتمة، فيزفرون آنذاك زفرة جماعية تنم في آن واحد عن الألم والارتياح ( أي التطهير حسب المصطلح الأرسطي)، يستوعبون في الوقت نفسه الدرس التعبوي للدراما وهو: شجاعة اليونانيين، وقدرتهم على تحقيق النصر، والحاق الهزيمة بالعدو.

وفي مسرح عصر النهضة ثمة مسرحيات كثيرة تدور حول الحروب التي شهدتها أوروبا، ومنها بعض مسرحيات شكسبير المعروفة، وتُعدّ مسرحيته (هنري الخامس) من أكثر مسرحياته تمجيداً للحرب التي شنها الانجليز على الفرنسيين في (أزنيكور) عام 1415، إثر تحالف دوق بورغونيا الفرنسي (جان) مع ملك انكلترا هنري الخامس، ونتج عنها احتلال الجيش الانجليزي لفرنسا. وقد عرضت هذه المسرحية أول مرة في لندن عام 1599، وجرى تحويلها إلى فيلم سينمائي أكثر من مرة، كان أولها على يد لورانس أوليفيه خلال الحرب العالمية الثانية عام 1944، وقد عمد أوليفيه إلى حذف جميع المشاهد التخريبية في النص المسرحي، ومنها قتل الجيش الانجليزي للأسرى الفرنسيين، لإنتاج فيلم وطني يهديه إلى القوات التي ستقوم بتحرير فرنسا!. ثم تلاه المخرج الإنجليزي بيتر أيوس عام 1957، ثم المخرج الكندي لورن فرد عام 1966، ثم المخرج الإنجليزي كينيث برانا عام 1989، ثم مخرجون آخرون. ومثّل بيتر أوتول دور الملك هنري الخامس في فيلمين من هذه الأفلام، ورُشّح عن هذين الدورين لجائزة الأوسكار في غضون أربع سنوات، وبذلك أصبح أول ممثل يُرشّح للأوسكار مرتين عن أداء الشخصية نفسها. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2000 عرضت المسرحية ضمن مهرجان (أرونديل) البريطاني في فناء القلعة التي يحمل المهرجان اسمها. وفي صيف 2002 عندما ظهرت ملامح النزاع بين إدارة الرئيس الأميركي بوش والعراق اختار نيكولاس هيتنر، مدير المسرح القومي الإنجليزي، المسرحية وأجريت عليها التمرينات بإخراج حديث خلال الغزو الأميركي عام 2003، وبدأ عرضها الأول في 13 آيار (مايو) في لندن. وقد أشارت المقالات التي كتبت عن العرض إلى أن المخرج استخدم الملابس العسكرية وسيارات الجيب والبنادق الرشاشة، وأسند دور هنري الخامس إلى الممثل الأسود اللامع أدريان ليستر. وضمن مجرى الفعل الدرامي يحاول مستشارو الملك إيجاد مسوغات لغزو فرنسا، لكنهم لم يجدوا صعوبة في إقناع ملك مصمم على القيام بهذه المهمة. وتذكّر أقوال الملك، التي يشير من خلالها إلى أن الله سيحرص على أن يكون النصر من نصيبه، بـ «الإيمان القوي» لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، تناغماً مع «إيمان» صديقه الرئيس بوش. وعلى الرغم من توكيد مدير المسرح هيتنر على أنه لم يختر المسرحية بهدف إثارة الجدل حول الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق، بل لجعل الناس ينظرون إليها في إطارها الجديد، فإن توقيت اختيارها آنذاك كان ذا مغزى تعبوياً لمواجهة الأصوات التي نددت بالحرب وأدانت اشتراك حكومة بلير فيها.

ومما يؤكد استثمار هذه المسرحيةً لأغراض تعبوية أيضاً أن الجنرال الأميركي نورمان شوارزكوف استوحى فقرات من خطاب هنري الخامس لإثارة حماسة جنوده خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، وأن اللفتنانت- كولونيل البريطاني تيم كولين، المتهم بارتكاب أعمال وحشية ضد الجنود العراقيين في أثناء الحرب، ألقى خطاباً حماسياً لتشجيع قواته مذكّراً بالعبارات التي استخدمها هنري الخامس مما أثار إعجاب الرئيس الأميركي بوش، وولي العهد البريطاني الأمير تشارلز. وفي خطوة ربما تكون أكثر وضوحاً من ذلك قامت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في شتاء 2003 بتوزيع نص المسرحية على الجنود الأميركيين، قبل بدء غزو العراق، لتحفيزهم على القتال، متناسيةً أن المسرحية تكشف أيضاً عن وحشية الجيوش مع حملاتها الدعائية، والإذلال الذي يتعرض له الجانب المهزوم في الحرب. اليوم وبعد مرور خمس سنوات على إنتاج المسرح القومي الانجليزي لهذا النص تعيد إنتاجه فرقة مسرحية أميركيةً، مسقطةً أحداثه، حسب أحد مواقع الانترنيت، على احتلال أميركا لأفغانستان. وقد وظف المخرج في العرض مقاطع عديدةً من خطب بوش، التي يدعو فيها إلى مواصلة تمويل الحرب على الإرهاب، وصوّر الجنود المرسَلين إلى الحرب أبطالاً ذاهبين لأداء مهمة مقدسة، وانتزاع البلاد من قبضة القائد العسكري الفرنسي برتراند دوغوكلان، الذي كان يوماً ما أداةً بيد هنري الخامس قبل أن يصبح عدواً له وتفرق بينهما المصالح والمطامع.

إن توظيف هذا النص الدرامي الشكسبيري، الذي يحمل في طياته نبرةً تهكميةً تجاه التهور الانجليزي، لأغراض حربية يقدم مثلاً صارخاً على نزعة تحويل الإبداع، الذي يتناقض جوهره الإنساني والجمالي مع أي نزعة عسكرتارية، إلى وسيلة في خدمة مقاصد سياسية، وهو في حِلّ منها، من خلال التلقي البراغماتي لخطابه. والمفارقة هنا أن نص شكسبير قد جرى توظيفه لهدف تعبوي على يد أشخاص ومؤسسات تنتمي إلى نظام ديمقراطي وليبرالي وليس إلى نظام شمولي.

عواد علي: شكسبير وغزو العراق وأفغانستان
 
06-Mar-2008
 
العدد 16