العدد 15 - اقتصادي
 

السّجل - خاص

يتوقف مدير عام صندوق المعونة الوطنية عن التنبيه الى خلل أساسي في آلية التعامل مع الفقر. فهو يقول: «بمجرد ذِكْر الفقر يتبادر دوماً الى الذهن صندوق المعونة وأحيانا صندوق الزكاة، مع أن هذه المؤسسات ليست أصلاً صاحبة الدور الأول في مجال الفقر. هناك أولاً المنطلقات الاقتصادية العامة: فرص العمل والمشاريع ومسألة الحد الأدنى للأجور وصولاً الى موضوع البنية التحتية، أما دور الصندوق فهو، بالدرجة الأولى، حماية من تفشل بقية عناصر النظام الاقتصادي الاجتماعي في حل مشكلته».

هذا بالفعل ما تؤيده نظم عمل الصندوق وأهدافه ومسيرة السنوات الأولى من عمره الذي ابتدأ العام 1986، فمبدأ عمل الصندوق يفترض أن كل عناصر العملية الاقتصادية تسير بشكل جيد، ولكن نظراً لأنه في كل الحالات تتوافر مخاطر حصول فشل جزئي هنا أو هناك، الى جانب أنه في كل المجتمعات توجد فئات لا تستطيع العمل وتحصيل الدخل وتحتاج للمساعدة حتى لمجرد البقاء، ولكن الصندوق مثلاً ليس معدا لمواجهة فكرة البطالة وهي القضية التي أحيلت إليه في السنوات الأخيرة. إن الصندوق هو شبكة أمان تلتقط من يسقط من بقية العناصر الأخرى ولا يجوز أن يتحول الى أصل.

وهذا بالمناسبة ما يفتح النقاش على الصيغة الحالية لشبكة الأمان التي يجري الكلام حولها، فهي أقرب الى التخطيط لـ«فقر مستهدف»، فالحديث يجري عن نسبة فقراء جديدة سوف تستحق الدعم، وأن هناك دخولا متوقعاً، يعرفه المخطط مسبقاً، لفئات جديدة الى سوق الفقراء طالبي المعونة، بينما في السابق كان الحديث يجري عن فئات قد تتضرر من التغيرات تحت تأثير برامج التصحيح، ولكن في المدى القصير فقط، بينما يثق المخططون المعاصرون من حصافة خططهم ودقتها، ولذلك يعرفون حجم الفئات التي ستتضرر من القرارات والخطوات الاقتصادية التنموية! وعليه يتعين البحث مسبقا عن شبكات حماية تستوعب النجاح المتوقع للخطط! (اسمحوا لنا بالطبع بشيء من المبالغة).

عودة للمعونة وصندوقها مع هذه الوضعية للصندوق، فإنه من أكثر المؤسسات التي يجري التساؤل حول دورها ومدى إنجازها، بل إن مجمل السياسات الحكومية في السنوات الأخيرة المعتمدة والمعلنة تتعامل، بقدر كبير، من التشكيك بجدوى دور الصندوق.

تفكير وطني

ولد صندوق المعونة الوطنية باعتباره فكرة محلية توصل اليها العام 1986 موظفون عاملون في وزارة التنمية الاجتماعية (وزارة الشؤون الاجتماعية آنذاك) ويتذكر د.محمد الصقور وزير التنمية الاجتماعية السابق، وهو من مؤسسي الصندوق، «في منتصف الثمانينات كان في الوزارة برنامج مساعدات، وفي أثناء عملنا الميداني لاحظنا وجود بعض مظاهر الفقر، فتساءلنا: لماذا لا ندرس الظاهرة؟ وبدأت الفكرة تنمو تدريجياً ثم حولناها الى اقتراح وخطة بحث بموازنة مالية قدرناها بمبلغ 70 ألف دينار تمت الموافقة على 55 ألفاً أنفقنا منها 45 ألفاً فقط!».

يضيف الصقور: «لقد علمنا أنفسنا بأنفسنا، فلم تكن هناك دراسات وأدبيات سابقة مفيدة لا محليا ولا عربياً، وكان ما عثرنا عليه هو بعض الدراسات البسيطة إحداها عن فييتنام والثانية عن كوريا، ولذا فقد صممنا بحثنا محليا بالكامل، وفيما بعد أرسلناه للبنك الدولي للاستشارة، لأن البنك الدولي نفسه كان جديدا على الموضوع، وقد قيم البنك دراستنا ايجابياً واعتبرها علمية من حيث المنهج».

ولدت فكرة الصندوق أثناء النقاش الجاري آنذاك، وكان الحديث عن نسبة فقر 4 بالمئة وقد كنا نبحث عن الفقراء، وكانت مهمة الصندوق أن يصل الى الفقير الذي كان يتردد عن القدوم الى الصندوق، ولم تكن ثقافة تلقي المعونة قد انتشرت، وكان الفقير الذي يعرف أحدا من موظفي الصندوق او الوزارة يخجل من القدوم كي لا يراه من يعرفه، بعكس الحال الآن حيث يتوسط الناس للحصول على المعونة.

لكن مدير عام الصندوق الحالي يقول إن ثقافة المعونة شاملة لكل فئات المجتمع ولا تقتصر على الفقراء، يضاف إلى ذلك أن طالبي المعونة، وبخاصة «المحترفون» منهم يعون هذا الوضع، ويتساءلون: لماذا يأخذ الأغنياء تسهيلات وإعفاءات من الدولة بالألوف والملايين بينما يريدون حرماننا من بضعة دنانير؟

خلاف مع التخطيط

ظل صندوق المعونة ميداناً للخلاف بين وزارة التخطيط التي دخلت على خط الفقر منذ النصف الأول من التسعينات بعد أن أعد البنك الدولي أول دراسة للفقر في الأردن هي تقييم الفقر في الأردن، وهي دراسة من جزأين شكلت حصة الأردن عشرات الدراسات المماثلة غطت أكثر من تسعين بلداً قبل الأردن.

الحكومات تبنت النتيجة التي توصل اليها البنك الدولي القائلة إن ثلثي أموال الصندوق تذهب لغير الفقراء، وشنت حملة واسعة في عهد حكومة البخيت على وجه التحديد واعتبر إلقاء القبض على مزدوجي المعونة بمثابة انجاز، وقد أعلن وزير التنمية الاجتماعية حينها أنه يفخر بهذا الإنجاز، وأنه تم تقليص عدد المستفيدين من معونة الصندوق بمقدار النصف، وهي الأرقام والحالات التي أخذت تتسلل مرة الى الصحافة عبر عناوين موحدة: إعادة المعونة الى حالات تم إيقافها عنها مسبقاً بسبب ثبوت تعسف الإيقاف!.

يكمن جزء من موقف الصندوق ذاك بين لوم الحكومات وشكوى الفقراء في قبوله وسكوته على النظر اليه من قبل المخططين المعاصرين على أنه مؤسسة «بلدية» تقليدية لا تواكب روح العصر التي دبت في أركان بعض المؤسسات والوزارات. ومن المفارقات مثلاً أن رئيس الفريق الوطني النظير لفريق البنك الدولي في إعداد التقرير الذي انتقد عمل صندوق المعونة هو نفسه أمين عام وزارة التنمية الاجتماعية التي يتبع لها الصندوق، أي أن الوزارة ضمناً انتقدت نفسها، وبالطبع، فإن ذلك النقد كان سيحسب لها لو أنها اعترفت بتقصيرها فعلاً، ولكنها لا تفعل وتعلق: أن نتيجة التقرير صحيحة بحسب المنهج المتبع فيه، ولو اختلف المنهج لاختلفت النتيجة!

**

«أهم شيء بالنسبة لنا هو الطحين والخضار، أنا أخبز على الصاج وأطبخ البندورة والبطاطا في أغلب الأحيان.

لم أطبخ اليوم لأنه ليس لدي سمن». امرأة - الشونة (تقرير التنمية البشرية 2004 ص 61)

**

سلتان للغذاء: سمينة وعجفاء!

تدخل سلة الغذاء التي تولِّد السعرات الحرارية اللازمة لإبقاء الآدميين على قيد الحياة، أي تصنفهم على حافة خط الفقر المدقع، باعتبارها من المكونات الرئيسية، إن لم تكن العنصر الأساسي لتحديد خط الفقر المطلق، ويصدق ذلك على التحليلات الرامية إلى تحديد هذا المؤشر في الأردن مثلما تصدق على بلدان نامية أخرى، وصحيح أن عناصر أساسية أخرى تضاف إليها لتأمين الاحتياجات الإنسانية الأساسية الأخرى مثل: الملبس، والمسكن، والصحة، والتعليم، والمواصلات، بيد أن التركيز على الأولوية المطلقة لعنصر التغذية ما فتئ يتعرض لانتقادات شديدة لدى العلماء الاجتماعيين وواضعي السياسات «التقدميين».

وربما كان آدم سميث، عرّاب اقتصاد السوق والمشروع التجاري الرأسمالي الخاص، من أول المنادين بإضفاء البعد الإنساني والاجتماعي المتحضر على تلبية متطلبات الحياة الحيوية الأساسية، وإعطاء الفقر معنى نسبياً. فمنذ أن نشر «ثروة الأمم» في سبعينات القرن الثامن عشر، رأى سميث، أن المستلزمات الضرورية لدعم الحياة البشرية لا تقتصر على توفير الغذاء والسكن بل تتعداه إلى جملة من الأمور التي لا يجوز اعتبارها من مظاهر الرفاهية والترف، بل ينبغي عدها من أصول الحياة الإنسانية الكريمة التي تواضع على تقديرها الناس، فقميص الكتان ليس من ضرورات الحياة، فاليونانيون والرومان لم يعرفوه، مع أنهم كانوا يرتدون ثياباً مريحة، غير أن من العار حتى على عامل مياومة يدوي في أغلب أنحاء أوروبا أن يظهر أمام الناس «في أيامنا هذه» بغير قميص من الكتان، وقد ا عتاد البريطانيون على الأحذية الجلدية حتى غدت بالنسبة لهم من الضرورات، غير أنها ليست كذلك في فرنسا، لا للنساء ولا للرجال، ويتبنى «أمارْتِيا سِنْ» Sen Amartya، الداعية الأشهر للتنمية الإنسانية المستدامة، موقفاً أكثر ليبرالية في ما يتصل بتوفير ضرورات الحياة للفقراء، حتى في أساسيات الغذاء. فأنت، كما يقول، لا تتناول الغذاء، بل الطعام، لأن للأخير طعماً ومذاقاً يميّزانه عن أوراق الشجر مثلاً. ومن ناحية أخرى، أليس بروتين اللحوم التي يتنعم بها الأغنياء «أَطْعم» من بروتين الفول الذي يرغم على تناوله الفقراء؟

“المعونة الوطنية” في معركة الفقر.. بدأ الصندوق كملاذ آمن فأضحى رأس حربة
 
28-Feb-2008
 
العدد 15