العدد 15 - كتاب
 

اتسعت مؤخراً شبكة المدونات المخصصة للكتاب والأدباء والصحفيين، وبخاصة بعد أن أتيحت الفرصة لتأسيس هذه المدونات مجانا على بعض المواقع والشبكات الإلكترونية.

أصبح في مقدور الجميع الآن، امتلاك مدونات خاصة، ينشرون فيها كتاباتهم، ويعممون هذه المدونات على عدد من الأصدقاء والمعارف والمقربين، كي يتلقوا تعليقاتهم التي ستكون بالضرورة في شكل سطور من المدائح العابرة، والغزل المجاني. الأمر الذي يرضي طموح بعض الكتاب، ويعزز ثقتهم أو يرممها.

مشكلة المدونات أنها تشبه الصالون الأدبي، حيث يقرأ أحد الحضور قصته أو قصيدته، ما يرتب على المستمعين واجب التعليق. وغالبا ما تكون التعليقات في هذه الصالونات الأدبية، محمولة على هودج المجاملة، بحيث أصبحت هذه الحال ملمحا من ملامح الثقافة السائدة.

فصاحب المدونة يعرف أصدقاءه، وأصدقاؤه يعرفون مدونته، ويشعرون أن من حق صديقهم عليهم متابعتها، وبالتالي التعليق على ما يقرأونه فيها.

قبل المدونات، كان الشاعر أو القاص ينشر قصيدته أو قصته، ويقرؤها الآخرون في معزل عن وجوده أو حضوره أو الشعور بقربه وأنفاسه، ما يعني توافر هامش واسع من حرية القراءة، وحرية إبداء الرأي والنقد، من دون مجاملة أو محاباة. وحتى في حضوره، كنا وما نزال نمتلك هامشا واسعا من المصارحة والمكاشفة، وقول ما هو حقيقي في أعماقنا ودواخلنا، من دون رقابة علاقاتية. وإذا ما وجد أحدهم ضرورة في إيصال تعليقه أو نقده في شكل موسع، إلى عدد أكبر من القراء والمتابعين والمعنيين بالشأن الثقافي، وإلى الكاتب نفسه، فقد كان يجد الوسيلة الصحيحة، ويقوم بإرسال هذا النقد إلى الصحيفة ذاتها. أي أنه يفعل ذلك طواعية من دون الشعور بتأدية واجب تجاه صديق أو زميل، نخشى التسبب في استيائه أو إحباطه أو ربما نفوره الشخصي منا.

وفي خلال متابعاتي كثيرا من المدونات، لاحظت أن هذا العدد الكبير من الزائرين للمدونة، لا يمثل أشخاصا، بمقدار ما يمثل زيارات متكررة لعدد محدود من الأصدقاء والمقربين. أي أن عدد الزائرين للمدونات، لا يعكس عدد القراء الحقيقي، بمقدار ما يسبغ شكلا من الرضا على صاحب المدونة الذي تسكره الأرقام، فيمعن في المزيد من إضافة الموضوعات، طالما كانت ستحظى بالأرقام نفسها، وبالتعليقات نفسها.

وقد علمت من بعض الأصدقاء، أن أصحاب بعض المدونات من الكتاب والأدباء والصحفيين، يقومون بتجنيد بعض الأصدقاء للترويج لمدوناتهم، ولحث أصدقائهم على متابعتها، والتعليق على ما يقرأونه فيها، ما يعني الإيحاء بكتابة تعليقات إيجابية في حق صاحب المدونة وكتاباته. وبعض الكتاب والأدباء والصحفيين، يتخذون من المدونة كمينا يسقطون فيه فريسة نسائية، من اللواتي يبحثن عن بعض الكتابات التي تعكس أفكارهن وهواجسهن وأزماتهن، إضافة إلى بعض الفتيات الجامعيات، اللواتي يجدن في التواصل مع بعض الأسماء المعروفة، فرصة تعزيز الذات وتوكيدها، أو ربما فرصة للتباهي أمام الزميلات والزملاء في الجامعة. وإذا كانت الشبكة الإلكترونية أسهمت في تعزيز فرص القراءة، وشجعت أولئك الذين لم يعتادوها ورقياً من قبل، فإن هؤلاء سوف يشكلون شريحة جديدة من القراء، لم تتدرب على القراءة جيدا، ولم تتح لها الفرصة للاطلاع على الآداب والفنون العالمية والعربية الكبرى، ما يعني أن يتحول بعض الكتاب من الدرجة العاشرة، نموذجا ومثلا أعلى في الكتابة الإبداعية لتلك الشريحة الجديدة.

واللافت للنظر في كثير من هذه المدونات، هو أن الغالبية العظمى من الكتاب والأدباء لا يشاركون في قراءتها أو التعليق عليها. أي أنهم ينأون بأنفسهم عن الإحراج الذي قد يتسبب فيه وجودهم، سواء كان لجهة صاحب المدونة أم لهم. وهذا النأي ذاته، يعني تشكّل شريحة جديدة من الكتاب والأدباء، تجد متسعا من الوقت للتفتيش في المدونات الفطرية ـ نسبة إلى الفطر، وتكتسب ثقة ـ ولو زائفة ـ في إنتاجها، ما يجعلها مستقبلا تعتقد أنها هي الأجدر في تصدر المشهد الثقافي والإبداعي.

ولعل بعض التعليقات في كثير من المدونات، يعطي انطباعا بأن هذه المدونات قد وجدت لإتاحة فرصة ما لبعض المتعطلين عن القراءة حينا، أو بعض من يمتلكون فائضا في أوقات الفراغ، أو بعض من يجدون الوقت ملائما للمناكفة، وتصفية حسابات شخصية، وبخاصة تلك التعليقات التي تبدو سطحية تماما، خالية من أي قيمة معرفية، لا يكون الهدف من ورائها إلا التشويش أو التسلية.

ولكن، هل هذا يعني حكما بالإعدام على مدونات الكتاب والأدباء؟

ثمة كتاب وأدباء نعرفهم، ونقرأ كتاباتهم في نطاق ضيق، ولكن أسماءهم لم تكرس تماما، ما يجعل بعض منابر النشر تتلكأ في نشر إنتاجهم، وربما تكون المدونات في هذه الحال منبرا يخدم ثلاث جهات: الكاتب والقارئ والمشهد الثقافي.. أي أن المدونة في هذه الحال تسهم في إثراء الحياة الثقافية، في خلال تقديم مزيد من الكتاب والأدباء الذين لا يتمتعون بهذا الحضور على منابر النشر التقليدية.

ومن جهة أخرى، فإننا لا ننكر أن عالم الشبكة الإلكترونية، قد أوجد حقا قراء جدداً، وعلينا أن نتفهم أن هذه الشريحة أيضا، ربما تفرز من صلبها عددا جيدا من القراء الحقيقيين، الذين شكلت لهم المدونات مفتاحا للدخول إلى عالم القراءة الواسع والثري.

وكما نرى، فإن أحدا لا يستطيع الجزم حتى الآن، أو المغامرة بإصدار حكم قطعي على هذه المدونات، بمقدار ما يقدمه من ملاحظات سريعة، ربما يكون بعضها صائبا في نهاية الأمر، وربما لا يكون.

وما يهمنا في المقام الأول، هو أن نكون على درجة عالية من اليقظة والانتباه، لئلا تسكرنا نشوة الأرقام حينا، أو بعض المجاملات حينا آخر. كما أن علينا أن لا نأخذ كل ما يكتب بصفته كتابة عابرة أو هامشية، بل يمكن العثور على كتابات لأسماء مجهولة، نكتشف فيها كثيرا من الثراء الجمالي والمعرفي الذي نبحث عنه، ونعتبره كسبا جديدا للحركة الثقافية.

يوسف ضمرة: مدونات الثقافة والأدب
 
28-Feb-2008
 
العدد 15