العدد 1 - أفكار من هناك
 

بادو: تحولات المجتمع الفرنسي وانتخاب ساركوزي

في كتابه الجديد: لماذا وقع الخيار على ساركوزي؟ يفسّر الفيلسوف الفرنسي الشهير آلان بادو، نجاحَ ساركوزي بالتحولات الداخلية في فرنسا وبمعطيات العولمة الجديدة، وبصفات ذاتية يتمتع بها رئيس الجمهورية الجديد، وبأزمة اليسار. فقد تصدّع اليسار البرلماني وانهار ولم يعد قادراً على تجديد نفسه. وزاد الأمر تعقيداً صعود مشاكل اجتماعية جديدة، مثل قضية العنصرية والمهاجرين الذين لا يحملون «أوراقاً ثبوتية» تؤمّن لهم إقامة شرعية في فرنسا.. في مواجهة هذه القضايا لم يستطع اليسار الفرنسي أن يميّز نفسه من اليمين، ولا أن يقترح حلولاً مختلفة. إضافة إلى ذلك، هناك ما يدعى: «الإرهاب»، الذي يدفع المواطن الفرنسي إلى اختيار الطرف الذي يعِدُه بالأمان وسلامة المواطنين.

استثمر ساركوزي، بمهارة عالية، موضوع الخوف، واعداً المجتمع الفرنسي بوضع حدّ نهائي للتطرّف في مصادره المتنوعة: المهاجرون، الشباب، العمّال، الإرهابيون، وكل أولئك الذين لا يمتثلون إلى القانون ويهدّدون صورة فرنسا وقيمها المتوارثة.. تجنّبَ في خطابه السياسي النبرة العنصرية، مختاراً صياغة ذكية: فهو يريد أن يكون رئيساً لهؤلاء «الذين يحبون فرنسا»، ورئيساً قاسياً مع «الذين لا يحبون فرنسا».

وضع ساركوزي في لغته السياسية المرنة، «الروح القومية العليا» فوق الاعتبارات الاقتصادية، ومعنى ذلك أنه يستطيع أن يتخذ ما شاء من الإجراءات الاقتصادية باسم «الروح القومية»، سواء خدمت هذه الإجراءات الطبقة البرجوازية، دون غيرها، أو تعاملت مع مصالح فئات الشعب المختلفة باهتمام محدود وجزئي.

جمع ساركوزي بين «سياسة استثمار الخوف» و«الروح القومية»، وذلك في زمن عالمي مضطرب تخترقه «أيديولوجيا صراع الحضارات»، التي تلقى هوى لدى أنصار «الهوية الأوروبية» في أشكالها المختلفة. لهذا استطاع ساركوزي أن يستعيد اللغة القومية التقليدية بيسر وفاعلية، تلك اللغة التي لم يكن بإمكان المجتمع الفرنسي أن يقبل بها لولا السياق العالمي الراهن المأخوذ بثنائية: الإرهاب، ومحاربة الإرهاب.

ساركوزي، الذي يحلم بدور فاعل لفرنسا في العالم ، انجذب كما يقول مؤلف الكتاب، إلى شخصية رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وإلى شخصية جورج بوش. ولا يقتصر الأمر هنا على إعجابٍ شخصي، فهو يتطلع إلى دور جديد لفرنسا داخل التحالف الأوربي – الأميركي. وفي النهاية ، فإن التحوّلات الداخلية والخارجية، تمنح ساركوزي قوة كبيرة، فيتخذ حتى اليوم، ما شاء من القرارات دون صعوبات كبيرة، في مجالَي السياسة الداخلية والخارجية معاً. لا غرابة أن يرى بعض المحللين السياسيين في ممارسات الرئيس الفرنسي ملامح «بونابرتية»، أي ملامح الرئيس الذي لا يحتاج كثيراً إلى استشارة غيره.

Alain Badiou: de quoi Sarkozy est-it

Le nom? Nouvelle Editions Linges, paris ,2007

تودوروف: وظيفة الأدب محكومة بـ«الشرط الإنساني»

تسفيتان تودوروف أستاذ فرنسي من أصول بلغارية، متعدد الاختصاص: فهو فيلسوف وضع كتاباً شهيراً عن فلسفة التنوير الأوروبية عنوانه: نحن والآخرون، وله كتاب شبه فريد: غزو أميركا، بحث فيه عن الأصول الفكرية التي سوّغ بها «الفاتحون» إبادة الهنود الحمر.

يتناول في كتابه الجديد الأدب في خطر موضوعاً قديماً، دافعت عنه طويلاً المدرسةُ الواقعية في اتجاهاتها المختلفة، تمحور حول الدور الاجتماعي للأدب. لكنه في تناوله يأخذ موقفاً جديداً في الأدب والنظرية، يغاير مواقفه السابقة، خلال ثورة 1968.

إذا كان السياق الأدبي الفكري، في ستينيات القرن الماضي، القائل بالواقعية وبالأدب الملتزم وبالصراع الطبقي في الأدب، هو الذي دفع تودوروف، ربما، إلى الانزياح إلى المدرسة الشكلانية، والاحتفاء بالأدب كنص مغلق، والقول بـ«علم الأدب»، فإن السياق الراهن المتطرف في دفاعه عن «النصّية»، هو الذي ألزم الناقد الأخلاقي باستئناف الأفكار الواقعية السابقة وتصحيحها وتطويرها.

أكثر من ذلك، أن جيل الستينيات المتمرّد، الذي انتمى إليه تودوروف، انشغل كثيراً ببناء النظريات الكبيرة التي استفادت من البنيوية والماركسية وعلم اللغة وعلم النفس، على خلاف المناهج المسيطرة اليوم التي حوّلت قراءة الأدب إلى موضوع مدرسي لا يكترث بالميراث النقدي القديم، ولا بمضمون الأعمال الأدبية، انطلاقاً من أن الأدب مجرد كتابة يشرحها مدرّسون لا قضايا لهم، إلى تلاميذ لا ينشغلون بالقضايا السياسية والاجتماعية.

يدافع تودوروف عن وظيفة الأدب في مواجهة نزعة ليبرالية جديدة تلغي وظيفة الأدب، موحية بأنها تنتمي إلى بنيوية سابقة، كما لو كان دعاة البنيوية، في ستينيات القرن الماضي، ليبراليين جدداً «قبل الأوان».

لهذا يندّد الناقدُ بلغاريُّ الأصول بـ«التغيرات» المنهجية، «التي ترفع زوراً رايةَ البنيوية» الفقيرة، عوضاً عن أن تدفع القارئ إلى «التفكير بالشرط الإنساني»، لأن قضايا الإنسان كانت، وما زالت، هي موضوع الأدب، بالمعنى الحقيقي.

لا علاقة بين «النص المغلق» الذي يقول به الجامعيون الفرنسيون اليوم، و«النص المغلق»، الذي كان قال به البنيويون قبل أربعة عقود. فقد انتمى البنيويون السابقون إلى ثورة 1968، وانشغلوا بقضايا سياسية وأيديولوجية واجتماعية، مميّزين بين موقفين: موقف في الدراسة الأدبية يعزل العمل الأدبي عن الواقع، وموقف خارج النص الأدبي ينشغل بقضايا القارئ وينقد النظام الرأسمالي في وجوهه جميعها.

جعل تودوروف من قراءة المناهج الأدبية المسيطرة اليوم، قراءةً للتحولات السياسية في فرنسا خلال أربعين عاماً، مستعملاً كلمة «الخطر» بمعنى صريح، وآخر مضمر: فإذا كان الوضع الخطير في الأدب ماثلاً في إلغاء الدور الاجتماعي للأدب، فإن الوضع الخطير في المجتمع ماثل في سيطرة أفكار الليبرالية الجديدة، التي تحوّل الأدب إلى لعب شكلانية، ولا تكترث بموقع الإنسان فيه.

صاغ تودوروف قوله الاحتجاجي بلغة بسيطة، متوجهاً إلى جمهور واسع، وذكّر في قوله ببداهات كان يقرّها الجميع، قبل أربعين عاماً. فلم يكن أحد يماري في قيمة الإنسان وحقه في الحياة، ولا بضرورة نقد الواقع من أجل الارتقاء به. ولم يكن هناك أساتذة جامعيون يهملون «تاريخ الإنتاج المعرفي»، أو «تاريخ النظرية النقدية»، ذلك أن الانطلاق من الحاضر والاكتفاء به يعني بكل بساطة أن الحاضر هو الزمن الوحيد، الذي لا يمكن الاستعاضة عنه بأي زمن آخر، بما في ذلك المستقبل.

Tzvetan Todorov: La Litterature en peril

Flammarion, paris, 2007

نواريل: مستقبل المثقفين في فرنسا

جيرار نواريل واحد من المؤرخين القلائل الذين انشغلوا بتحليل فرنسا المعاصرة. يقرأ في كتابه مستقبل المثقفين في فرنسا وضع المثقفين في علاقته بتحولات البنية الاجتماعية، وبالتاريخ الفرنسي الحديث الذي بدأ مع الثورة الفرنسية العام 1789.

ينطلق نواريل من فكرة أساسية ترى في المثقف، تعريفاً، قوة تقدمية، لأنه وُلد مع الثورة الفرنسية وساهم في انتصارها. وإذا كان دوره في زمن سابق تجلّى في إنتاج أدب قومي وخلقِ لغة قومية مشتركة، ونقدِ الأفكار التي كان يقوم عليها النظام القديم، فإن دوره الراهن يتجدّد بالدفاع عن المنجزات التي جاءت بها الثورة الفرنسية: النظام الجمهوري، والمؤسسة البرلمانية، وتوطيد المجتمع المدني وفاعليته.

أدرج نواريل في كتابه ثنائية المضطهَدين والمضطهِدين، التي تستمر اليوم بأشكال مختلفة، وعطف عليها الفاعلية الأيديولوجية للقوى الحاكمة، التي تجعل «ضحايا المجتمع الرأسمالي» يرون الوقائع اليومية من خلال «حجاب»، وغير قادرين على التعبير عن أنفسهم في «الفضاء العام». على هذا، فإن دور المثقف لا يتعيّن فقط في إنتاج معرفة أكاديمية «تقدّمية» تحلل الخطاب الرسمي وتردّ عليه، بل إن دوره صوغ لغة جديدة مفهومة تتوجه إلى «الإنسان العادي».

يطرح هذا المنظور ثلاثة أسئلة: من الذي يمتلك حق الكلام، وبأية لغة يصوغ كلامه؟ وبأية لغة يصوغ الذين لا يحق لهم الكلام أفكارهم؟ مع أن في كلام المؤرخ ما يستعيد أفكار ماركس عن الطبقات المسيطِرة والأفكار المسيطِرة، فإن خطابه كله يدور حول ضرورة انفتاح المثقف على الإنسان العادي والحياة العامة. غير أنه لا يفعل ذلك من أجل «توعية الجمهور» فقط، بل لجعل هذا الجمهور عارفاً بأفكار الثورة الفرنسية وقادراً على الدفاع عن «المثُل الجمهورية»، انطلاقاً من واقع فرنسي جديد، انتشرت فيه العنصرية وكراهية الغرباء وأفكار الليبرالية الجديدة التي تمجّد «الفرد» وتقمع «الجماعة».

يتضمن الكتاب برنامجاً ثقافياً - سياسياً: يطالب بتوليد لغة سياسية جماهيرية جديدة، ويطلب من المثقفين عملاً جماعياً يسهم في إعادة بناء الوعي اليومي. ومع أن الخطاب يدور حول علاقة المثقفين بالجمهور، فهو دعوة للمثقفين للانخراط في عمل جماعي له آثار سياسية. هذا العمل، ومنذ الثورة الفرنسية، هو الذي صاغ هوية المثقف الفرنسي، التي تعيّنت دائماً بقتاليتها ودورها النقدي: فالمثقف يواجه السلطة بالحقيقة مدافعاً عن الجمهور، ويندّد بالمثقفين الذين ينجذبون إلى السلطة ويقومون بتضليل الجمهور. بل إن المثقف، وكما يؤكد نواريل أكثر من مرة، هو الذي يرفض طمس الحدود بين الضحية والجلاد، وبين المضطهَدين والمضطهِدين.

أكّد المؤرخ في كتابه ثلاثة أبعاد: إن المثقف الفرنسي لا يكون مثقفاً إلا بانتمائه إلى مُثل الثورة الفرنسية، وأن الصراع الاجتماعي الذي أدى إلى هذه الثورة ما زال قائماً اليوم، وأن على المثقف الفرنسي الراهن أن يقوم بنقد ذاتي، كي يستطيع القيام بدوره.

Gerard Noiriel : l’avenir des intellectuals en France. Fayard, Paris, 2006

في فرنسا اليوم هيمنة اليمين السياسي وتحذير من خطر على الأدب
 
01-Jul-2009
 
العدد 1