العدد 1 - متابعات أدبية
 

ردّ الناقد المصري جابر عصفور في كتابه الجديد على السؤال التالي: لماذا لا يوجد نقد أدبي عربي؟

مع أن السؤال يبدو بريئاً يسأل عن الإنجاز العربي في حقل معين، بل يبدو غيوراً، لأنه يطالب النقاد العرب بإنجاز ما يجب إنجازه، إلا أنه ينطوي، ضمنياً، على «نزعة أصولية»، ذلك أن القول بنقد أدبي عربي لا يختلف عن المطالبة بنقد أدبي وطني أو إسلامي. يحيل هذا التصور على هوية ثقافية نقية خالصة، إذ للعرب نقدهم، مثلما أن للمسلمين نقداً آخر، علماً أن النقد الأدبي، حال ألوان أخرى من المعرفة، محصلة لمساهمات إنسانية مختلفة، كان للعرب وللمسلمين دور فيها، ذات مرة.

يستدعي السؤالُ موضوعَ الهوية، وهو أمر لا خلاف عليه، ويستدعي قبل ذلك السياقَ الراهن، الذي يجعل من الهوية هاجساً مستمراً. فلم يكن موضوع الهوية غائباً عن الفكر العربي الحديث، الذي كان ينظر إلى المستقبل وأعطى الهوية العربية أبعاداً مستقبلية، ورأى معنى الهوية في المستقبل الذي يعيد صياغتها ويجعلها جزءاً من الحاضر. لعل هذه الهوية، التي كانت تفتش عن ذاتها، بعيداً عن الوهم والانغلاق، هي التي أملت على الفكر العربي أن ينفتح على الآخر، وأن يتعلم منه وينقده معاً. أما في السياق الراهن، المتّسم بتداعي الثقافة والسياسة والفكر النقدي، فإن الهوية المرغوبة تأخذ أبعاداً ثلاثة: فهي كاملة مستكملة لا تحتاج إلى الحركة والتطور، وهي صورة عن الماضي الكامل الذي جاءت منه وعليها أن تعود إليه، وهي نقيض كلّي للآخر، دون ضرورة معرفته والتعرّف إليه.

لعل رفض «الآخر» دون التعرّف إليه هو ما يدفع بجابر عصفور إلى نقد كتاب حسن حنفي الاستغراب، الذي هو في نهاية المطاف استشراق مقلوب، بل إنه يتقهقر إلى ما وراء «الاستشراق المعماري»، لأنه لا يعتمد على المقارنة المعرفية، بل يقوم على منطق «الثأر» أو «الانتقام»، كما يقول عصفور.

يدفع هذا المنطق إلى أمرين: تعيين الذات الكاتبة، أو المفكر المفترض، مرجعاً للمعرفة الموضوعية، فهو: المعرفةُ ومستعمِلُها في آن، والتعاملُ مع الفكر الاستشراقي، في تاريخه الطويل، بوصفه مجموعة من الأفراد الذين على المفكر المصري أن يقوم بمحاكمتهم وقصاصهم ومعاقبتهم، كما ينبغي أن تكون العقوبة. ومع أن حنفي يحاول الرد على «المركزية الأوروبية»، فهو، في واقع الأمر يرد على مركزية بأخرى، أو يرد عليها بـ«أصولية فكرية» ترى في «الشرق» مرجعاً للحقيقة، وفي «الغرب» مركزاً للضلال. لا ينسى عصفور وهو ينقد «الأصولية الشرقية» أن ينقد أيضاً «الأصولية الغربية»، كما تتجلى في ميدان النقد الأدبي بخاصة، قائلةً بـ«نقد أدبي عالمي»، مساويةً بين «العالمية» والافتراضات الغربية، وفارضةً، لزوماً، مقياساً واحداً للإبداع حيث المبدع الحقيقي هو الذي يأخذ بمعايير الغرب الجمالية.

يطالب عصفور، وهو ينقد الأصوليات في أشكالها المختلفة، بهوية ثقافية - نقدية مفتوحة، تنفتح على الآخر وتتعلم منه وتحافظ على خصوصيتها، ذلك أن الكوني لا وجود له إلا بالخاص، وأن الإبداع الثقافي الإنساني قائم في «التنوّع الخلاق»، الذي يفترض حواراً بين الثقافات الإنسانية المختلفة.

جابر عصفور، النقد الأدبي والهوية الثقافية، كتاب «دبي» الثقافية، الإصدار 21، 2009.

الكوني يكتب عن المستبد النموذجي

انصرف إبراهيم الكوني في روايته الجديدة الورم إلى تأمل الحاكم المكتفي بإرادته، الذي يضع داخله كل شيء ويلغي ما تبقّى.

وضع الروائي دلالة السلطة في مجاز بليغ، هو «الخُلْعَة» السلطوية التي تلتبس بجلد لابسها، بل إنها تصبح جلد المستبِدّ الأبدي، لا سبيل إلى «استعادتها» ولا طريقة للفصل بين «الجُبّة» وجسد الحاكم، حتى لو حاول الأطباء والسَّحَرة ذلك، ولا وسيلة لإخراجها، حتى لو اجتمع العقلاء وغير العقلاء، كما لو كانت «الخُلعة السلطوية»، أي اللباس السلطوي، هي روح الحاكم وجسده وقوام وجوده.

تأتي «الخلعة» من الخارج، وتذوب في الجسد، وتترسب في الروح إلى أن يغيّبُ الترابُ المستبِدَّ في لحظة منسية. والواقعة الرمزية هازلة ومأساوية معاً. هازلة: لأن جوهر المستبِدّ العتيد من اللباس الذي وقع إليه، قيمته من لباسه، فهو خارج اللباس لا يساوي شيئاً؛ ومأساوية، لأن هذا اللباس يتيح للحاكم أن يكسّر أرواح البشر.

أخذ الكوني، بتقنية الأمثولة، الحكاية الرمزية التي تستوعب واقعة خارجية وتفيض عنها. لكنه آثر، بغية توسيع المكان وتوضيحه، الأخذ بأمثولة مؤسطرة، لا تلتفت إلى تحديد المكان والزمان. ولعل هذه الأسطرة هي التي جعلته يساوي بين السلطة ومترادفات قديمة مثل: الخلعة، السترة، الجُبّة، والطريدة.

عبّر الكوني عن معنى اللعنة السلطوية بإشارات فنية متعددة: اللعنة هي الأسوار، التي تفصل بين «الواحة» والخلاء، وهي زبانية السلطة الذين يقمعون المواطنين، وهي الطقس الدموي الضروري الذي لا تكون السلطة إلاّ به، وهي الجشع واختلاس ما في جيوب البشر، وصولاً إلى «بيع الماء» والهواء واستباحة الصحراء. بيد أن معنى اللعنة لا يتكشّف واضحاً إلاّ من خلال التراتبية غير المقيّدة، فغرفة المستبِدّ معروفة ومجهولة معاً، وراء كل سورٍ سورٌ، وبعد كل حاجزٍ حاجزٌ، وخلف كل حاجبٍ حاجبٌ، وفي كل موقعٍ مرتزق – مرتبة، ووراء المواقع والمراتب جميعاً حاكمٌ منعزل يتطلع إلى السماء ويمتهن الأرض.

تبادل المواقع بين الحكاية والخطاب جعلَ من الورم رواية فلسفية، ترى في الحكاية مناسبة رحبة هادئة للحديث عن العدل والزهد والإثم والبراءة، وعن سطوة الزمن التي تعلّم المستبِدَّ ما لا يرغب في تعلّمه. رغم هذه المستويات الروائية، فإن لغة إبراهيم الكوني، المصقولة المتأنّية الكثيفة التي توحي بالقدم، أعطت الرواية شكل رسالة متصوفة، صاغها إنسان عادل قديم، شهد ظلماً واسعاً وثبّته كتابةً ومضى.

سؤالان طرحهما الكوني في روايته: إن كان المستبِدّ يستطيع أن يفعل ما يشاء، فما هي طبيعة الأطراف التي تعترف به؟ وهل من لقاء ممكن بين الحاكم المكتفي بذاته والحكيم الفيلسوف الذي يعتقد أن الحكمة تروّض الشذوذ؟ حاول إبراهيم الكوني في الورم النفاذ إلى جوهر السلطة المستبدة، ووضع في خطابه النافذ غضباً حكيماً، لم تعرفه الرواية العربية إلاّ في حالات نادرة.

إبراهيم الكوني، الورم،

المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008.

«توترات القبطي» والطائفية القاتلة

عاد الروائي السوداني أمير تاج السر، في عمله الجديد توترات القبطي، إلى ماضٍ غائم الملامح، وعطفَ عليه مكاناً لا ينقصه الغموض.

فَصَلَ الروائي، من البداية، بين الدين الحقيقي القائم على وحدة العقل والقلب، و«دين الجشع والكراهية» القائم على الجهل والغرائز. غير أن ما ميّزه إدراكه الواضح للعلاقة بين الوعي وشروطه الاجتماعية، فالحياة البائسة تنتج وعياً أكثر بؤساً.

يتمثّل المتعصّب الطائفي، كما رسمته الرواية، بوعي ثلاثي العناصر قوامه: الاختراع، والتماهي، والتماثل، من وجهة نظر ثنائية قاطعة وجهاها الخير والشر. يخترع المتعصب ذاته ويتماهى بالحق المطلق، ويخترع نقيضه ويماثله بالشر المطلق الواجب اجتثاثه.

تتعين الحركة الروائية، بهذا المعنى، بمجموعتين من المواقف، تحيل إحداهما على «الحق القاتل» المنتقل من جريمة إلى أخرى، وتعكس الثانية «القبطي المهزوم»، الذي يمتثل إلى إرادة الحق وينفّذ ما أراد. لذلك يأخذ المتعصب ما شاء من الصفات: الأمير، المتّقي، أمير أمراء الجهاد، حامل ريح الجنة، المنتصر في الدارين، هذه الفانية وتلك المتوَّجَة بالجنة.

يعوّض الوعيُ المتعصب الفقير، الآتي من هوامش عامرة بالجهل والجوع، فقرَهُ بثلاث صفات: اللغة المنذرة الفخيمة، التي تستبدل بالواقع صخبَ الكلام، والشكل الجهادي الزائف، المحمّل بالتجهّم والغضب بسبب أو من دون سبب، والألفة المريحة في التعامل مع الجنة، التي يلامس المتعصبُ أبوابَها، قبل الوصول إليها، ذاهباً إلى النعيم و«الحوريات».

يخترع المتعصبُ الطائفي ذاتَهُ، مستبيحاً الدين واللغة وحقوق الآخرين، غير أن ما يبدو أكثر رعباً هو: اختراع الآخر، أي ذلك «القبطي المهزوم»، الذي يساوي الكفر والدنس، الذي إن لم يهلك وجبَ غسلُ عقله وروحه ولغته وتخليصه من «شرور المسيحية». وبقدر ما رفع الروائي الهوس بالحوريات إلى مقام الفانتازيا، استولد من «غسل الضمائر الكافرة» فانتازيا ثانية، حيث للغسيل غرف وخبرات مجرَّبة واستغاثات لا تتوقف إلا بعد استبدال أرواح بأخرى.

أنتج الخطابُ الروائي شكلين من الصور المتقابلة، ذلك أن الجهادي الملتبس بالحق لا يعرف الجديد، مثلما أن المخلوق «التابع الواجب غسله» ثابت بدوره، يقول ما قاله سيده ويفعل ما يريده. بسببٍ ذلك تبدو ملامح «الطائفيين» متجانسة، ورغباتهم متماثلة، وأرواحهم متطابقة، فقد اخترعوا أنفسهم و«التهموا» أفضل الصفات. وفي مقابل ذلك، لـ«الأرواح المغسولة» ملامح واضحة، ففي سرائرها من الرعب والقنوط ما يعيد تشكيل وجوهها بلا انقطاع، تعيش تبعثراً متعددَ الوجوه، وتنتظر مصيراً غامضاً مفتوحاً على اليأس. هذا الفرق بين الثابت الذي غادرته الحياة والمتغيّر القلق الغامض المصير، يضع في البنية الروائية الملهاة والمأساة معاً: تأتي الملهاة من فعل التكرار، الموزع على كلمات وأفعال محدودة، وتأتي المأساة من أحوال ضحية، تدور بين الموت والصمت والخضوع، فإن هجست بماضيها وقعت عليها عين رقيبة قاتلة، «تمتلك صلاحية الولوج إلى الأحلام»، كما تقول الرواية.

في النهاية، فإن توترات القبطي إضافةٌ روائية ودفاعٌ عن التسامح، وتنديدٌ بمجتمعات تحاصرها «جماعات مهجورة» يخترعها الفقر وتردّ عليه بفقر أشد.

أمير تاج السر، توترات القبطي، الدار العربية، بيروت، 2009.

سؤال الهوية.. والاستبداد والوعي المغلق
 
01-Jul-2009
 
العدد 1