العدد 12 - سينما وتلفزيون
 

فيلم «فوق في الهواء» Up in the Air، هو ثالث أفلام المخرج والمنتج والممثل والكاتب السينمائي الكندي – الأميركي الشاب جاسون رايتمان، الذي لفت انتباه النقاد في فيلميه السابقين الكوميديين الساخرين المتميزين «شكراً على التدخين» 2005، و«جونو» 2007.

يستند «فوق في الهواء» إلى سيناريو من تأليف رايتمان بالتعاون مع الكاتب السينمائي شيلدون تيرنر، مبنيّ على رواية شائعة للكاتب والتر كيرن.

تدور قصة الفيلم حول موظف يعمل في مؤسسة استشارية متخصصة بتقديم خدمة فصل الموظفين العاملين في الشركات المتعاقدة معها، والذين يتم الاستغناء عن خدماتهم خلال الظروف الصعبة التي تواجهها تلك الشركات. وتستخدم الشركات خدمات هذه المؤسسة لتجنب المواقف الصعبة مع الموظفين المفصولين.

بطل الفيلم ريان بنجهام، أدى الدور الممثل جورج كلوني، متخصص في القيام بدور مسهّل ومنفّذ إنهاء خدمات هؤلاء الموظفين. وهو يعيش في حالة تنقل مستمرة بعيداً عن مقر شركته في مدينة أوماها بولاية نبراسكا، ليزور الشركات التي تستغني عن بعض موظفيها في المدن المختلفة، حيث يقابلهم في مكاتبهم وينقل إليهم الأخبار غير السارة.

أمضى بنجهام في عامه الأخير 322 يوماً في السفر الجوي «فوق في الهواء»، وهو يعيش في الطائرات والمطارات والفنادق، الأمر الذي يعدّه أكثر جوانب عمله متعة، بعيداً عن شقته الصغيرة التي أمضى فيها الجزء المتبقي الرتيب والممل من أيام العام.

هذا الرجل يعشق طبيعة عمله وما يوفره له من حرية ومن متعة السفر في الجو، حيث يتنقل بين المطارات ويصادف نساء جميلات في البارات، ويقيم معهن علاقات عابرة في فنادق قريبة، دون أن يقدم أي التزام. وهو مغرم بعمله، لأنه يعتقد أنه يقدم خدمة جيدة بطريقة مهْنية دون أن يفكر في الحالات الإنسانية المأساوية للموظفين الذين يفقدون وظائفهم ومصدر إعالة أسرهم، مغفلاً أن نجاحه في العمل يعتمد على مصائب الآخرين، وأنه كلما ازدادت الأحوال الاقتصادية سوءاً ازدادت فرص عمله نجاحاً.

إنه رجل غير مرتبط ولا يريد منزلاً أو زوجة أو أطفالاً، وليس له أي اهتمام بإقامة علاقات ثابتة أو الاحتفاظ بممتلكات، حتى إن علاقته بشقيقتيه فقدت روابط والتزامات صلة القرابة التقليدية. وهو يقترب من تحقيق هدفه الوحيد في الحياة، جمع عشرة ملايين ميل من السفر الجوي. ويمثل بنجهام نموذجاً غريباً، فهو نتاج للتكنولوجيا الحديثة والثقافة الحالية، حتى إن هدفه في الحياة يكاد يكون نقيضاً للحلم الأميركي.

تصادف حياة بنجهام امرأتان يكون لهما أكبر الأثر في حياته في نهاية المطاف. الأولى هي أليكس جوران، أدت الدور الممثلة فيرا فارميجا، التي يلتقي بها بمحض الصدفة في بار بأحد المطارات، ويجد فيها رفيقة مناسبة لأن طبيعة عملها تتطلب منها التنقل الجوي المستمر.

تتجاوب هذه المرأة مع رغباته في لقاءاتهما المستمرة، ولو أن ذلك يتم في الفنادق والمطارات، ولكن دون أن يشتمل ذلك على أي التزامات من أيٍّ من الطرفين. ومع مرور الوقت يزداد ارتباطه بها ويبدأ بالتفكير في إقامة علاقة دائمة معها. ويقرر فجأة أن يستقل الطائرة ويتوجه إلى المدينة التي تعيش فيها دون موعد مسبق. ولكن حين يصل إلى باب منزلها يفاجأ بأنها امرأة متزوجة وأم لعدد من الأطفال، وتقوم بصدّه على الباب ويعود أدراجه إلى حيث أتى بمزيج من الشعور بالصدمة وخيبة الأمل.

المرأة الثانية في حياة بطل القصة شابة جميلة وذكية وطموحة وحديثة التخرج في الجامعة، اسمها ناتالي كينر، أدت الدور الممثلة آنا كيندريد، تنضم إلى المؤسسة الاستشارية التي يعمل فيها بنجهام.

وتقترح هذه الموظفة الجديدة الواثقة من نفسها على إدارة المؤسسة إجراء المقابلات مع موظفي الشركات المنوي الاستغناء عن خدماتهم عن طريق فيديو الحاسوب دون الحاجة إلى السفر لمقابلتهم وجهاً لوجه، الأمر الذي يوفر على المؤسسة نفقات السفر بالطائرة والإقامة في الفنادق.

بطبيعة الحال، فإن هذا الأسلوب الجديد في العمل يهدد الوجود الذي يعول عليه بنجهام. ويقترح مديره المباشر أن يصطحب زميلته الجديدة في رحلته التالية عبر المدن الأميركية للاطلاع على طبيعة عمله على أرض الواقع.

يجد ريان في ذلك فرصة لكي يثبت لهذه الشابة الساذجة عدم جدوى أسلوبها الجديد في التعامل مع الموظفين المنوي الاستغناء عن خدماتهم، ويكلفها بإجراء مقابلات فصل الموظفين وجهاً لوجه بنفسها. ومع أنها تنجح في هذه العملية، إلا أنها تكتشف أثناء ذلك قسوة هذه الممارسة ووحشيتها، فيما يكتشف أيضاً وهو يرى ردود فعل الموظفين المفصولين وتأثرهم على أرض الواقع، أن نظرته إلى الحياة تتغير تدريجياً، ويدرك أنه يعيش حياة خاوية وخالية من أي هدف.

ولإضفاء لمسات واقعية على المقابلات مع الموظفين الذين فقدوا وظائفهم، وهي عنصر رئيس في موضوع الفيلم، وفي مشاهد الفيلم التي صورت مثل تلك المقابلات، عمد المخرج إلى استخدام موظفين فعليين تم الاستغناء عن خدماتهم وسط الأزمة الاقتصادية، وقام المخرج بنشر إعلانات في صحف بمدينتي ديترويت وسانت لويس بحثاً عن مثل هؤلاء الأشخاص بحجة الحاجة إليهم للظهور في فيلم تسجيلي يتعلق بأثر الركود الاقتصادي في حياة الناس.

وعندما تقدم هؤلاء الأشخاص للظهور في الفيلم التسجيلي طلب منهم المخرج أن يكرروا أمام الكاميرا ما قالوه عندما تم إبلاغهم بإنهاء خدماتهم في مقابلات فعلية مماثلة. ولم يستخدم المخرج سوى عدد قليل من الممثلين المحترفين في بعض المشاهد التي أجرى فيها الممثلان جورج كلوني وآنا كيندريك مثل هذه المقابلات في الفيلم.

بدأ المخرج كتابة سيناريو «فوق في الهواء» العام 2002، أي عندما كانت الأوضاع الاقتصادية الأميركية تشهد ازدهاراً، بحيث كان هذا الفيلم باكورة أفلامه السينمائية. إلا أن الفرص التي أتيحت له في إخراج فيلمَي «شكراً على التدخين» 2002، و«جونو» 2007، أدت إلى تأجيل إنتاج فيلم «فوق في الهواء» حتى العام 2009.

وقد تزامن وقت عرض الفيلم مع الأزمة الاقتصادية التي شهدتها الولايات المتحدة والعالم. ويرى رايتمان أن ذلك أكسب الفيلم صلة أقوى بواقع الأحوال الاقتصادية المتردية وتأثيرها، مما كانت عليه الحال لو أن الفيلم عُرض قبل سنوات، كما كان مخططاً له.

يجمع الفيلم بين العديد من عناصر الفيلم المتميز، وفي مقدمتها الإخراج المحكم للمخرج جاسون رايتمان وقوة أداء جميع ممثليه الرئيسين وبراعة السيناريو. وقد انعكس ذلك في عدد الترشيحات والجوائز التي نالها. فقد رُشح الفيلم لما مجموعه 102 جائزة سينمائية وفاز بأربع وأربعين منها. وشملت الترشيحات ستاً من جوائز الأوسكار وستاً من جوائز الكرات الذهبية. وفاز الفيلم بجائزة أفضل سيناريو في هاتين الفئتين. كما فاز الفيلم بثمان من جوائز أفضل فيلم، وبست عشرة جائزة لأفضل سيناريو. وفاز مخرج الفيلم جاسون رايتمان بأربع جوائز لأفضل مخرج.

ويعدّ دور الممثل جورج كلوني في فيلم «فوق في الهواء»، الذي جسد فيه بحساسية مرهفة شخصيةَ الموظف المسهِّل لإبلاغ موظفي الشركات بالاستغناء عن خدماتهم ببرودة أعصاب، واحداً من أقوى أدواره السينمائية، وفاز عن هذا الدور بعشر من جوائز روابط نقاد السينما. وهذا الفيلم هو واحد من ثلاثة أفلام للممثل جورج كلوني عُرضت في العام 2009، والفيلمان الآخران هما: الكوميدي «الرجال الذين يحدّقون في الماعز»، وفيلم الدمى والرسوم المتحركة «مستر فوكس الرائع». وقد سبق لهذا الممثل أن فاز بجائزة الأوسكار عن دوره في فيلم «سيريانا» 2005.

عُرض «فوق في الهواء» في مهرجانات تورونتو الكندي، وستوكهولم السويدي، وبالم سبرنجز الأميركي، وجمع بين النجاحَين الفني والتجاري. فقد بلغت إيراداته العالمية الإجمالية على شباك التذاكر 163 مليون دولار، رغم أن تكاليف إنتاجه اقتصرت على 25 مليون دولار.

تجدر الإشارة إلى أن عنوان الفيلم باللغة الإنجليزية Up in the Air ، يحمل معنى مزدوجاً. فهو يعني، من ناحية، أن بطل الفيلم يقضي قسطاً كبيراً من حياته في الجو في ركوب الطائرات. ومن ناحية أخرى، فهو يحمل معنى أعمق يتعلق بأهمية إدراك الشخص لبعض العناصر الأساسية في حياته، كوجود شريك حياة له أو امتلاك منزل يحتضنه. فكل ما يحصل سيختفي في الهواء، لأن الشخص سيدرك ذات يوم أن ما عدّه مهماً سيتحول إلى هباء منثور.

«فوق في الهواء»: العيش في سراب يصطدم مع الواقع
 
01-Jun-2010
 
العدد 12