العدد 11 - بورتريه
 

ليست الميزة الوحيدة لابن الحصن توفيق النمري، أن حسابه في بنك الفن والغناء والموسيقى، قارب الألف أغنية، كتابةً وتلحيناً وغناءً، وهو ما يمكن أن يُدخله في كتاب جينيس للأرقام القياسية، ويضعه على منصة لم يقف عليها سوى الكبار من مثل كوكب الشرق أم كلثوم.

ثمة ميزات تُقرأ من وجهة نظر علم الاجتماع والفن وعلم النفس، تتصل بالبيئة التي صاغت الأغنية الأردنية، وكان «عدفوس»، وهو الاسم الأول لعميد الأغنية الأردنية بحسب بطاقة الأحوال المدنية، تَمثَّلها منذ بواكير صباه وتَشبّع بها.

النمري، المولود العام 1918، استهواه الفن مبكراً وهو ما زال في عمر اليفاعة، فاختبر صوته في «الخابية» بعيداً عن المجتمع الذي كان يرى في الغناء خروجاً على تقاليد القرية المحافظة.

أضاف إليه درس الترتيل ذائقةً نقية، فانحاز إلى اللون الريفي الذي يرصد جماليات الطبيعة، وعلاقات الطيبة بين الناس، ناهلاً من الألحان التراثية التي لا تخلو من حماسة وقوة و«رجولة».

ربما تكون مثل تلك الخيارات فرضتها طفولته التي عاشها يتيماً عندما توفي والده وهو صغير، فعاش في عهدة جده، وهو ما وطّنَ في نفسه قناعة الاعتماد على الذات.

أدرك أن التراث الذي يقتبس منه مرجعياتِ الغناء، ينحاز إلى الذكورة وقيم الرجولة، تلك التي عززتها في نفسه خدمته العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية كاتباً في الجيش البريطاني لسبع سنوات.

في حياة «أبو صالح» الذي درس في قرية الحصن، محطات مهمة تركت ظلالاً في تجربته الغنائية. من بينها رحلاته إلى فلسطين قبيل النكبة. ففي رحلة إلى حيفا في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، مع معلم في المدرسة اسمه متري الحمارنة، أبو نشأت، ردد توفيق أغنية «يا جارة الوادي»، التي منحته حظوة في المدرسة وجعلته نجماً لحفلاتها.

درسَ عزف العود على يد الفنان ألفرد سماوي، وفي دمشق درس النوتة الموسيقية، وعلّم الموسيقى في الحصن والطيبة بعد أن تخرج في مدرسة التجهيز بإربد متحصلاً على «المترك».

بدأت مسيرته تتبلور في العام 1936، وفي تلك الفترة أهداه الأديب الراحل حسني فريز قصيدة «هياكل الحب» التي قدّمها مغنّاة بإيقاع أنيق.

قدم أول مساهمة احترافية في إذاعة رام الله العام 1949 في ذكرى استقلال المملكة، وخلال إحدى زيارات الملك المؤسس للإذاعة، قدم الفتى اليافع أمامه أغنية من اللون الحجازي، ويقول النمري مستذكراً المشهد: «فأوصى الملك بي خيراً».

انتقل للعمل في الإذاعة الأردنية بعمّان العام 1959، وأدّى حينئذٍ أغنيته الشهيرة «على بير الطي». ومنذ ذلك الوقت، وهو رائد الأغنية الأردنية بلا منازع، إذ وضعها في مكان لائق بين مثيلاتها العربيات، مطوّراً على القوالب والألحان والكلمات التراثية، لتناسب العصر دون تفريطٍ بالأصالة أو تجاوزٍ للقواعد المتعارف عليها.

تُمثّل غالبية أغنياته مدوَّنة لوقائع من حياته ومسيرته، على الصعيد الشخصي وعلى المستوى الوطني، ومنها: «أسمر خفيف الروح»، و«على ضفافك يا أردن».

كان للحروب العربية الإسرائيلية، نصيب من أغنياته. فقدم «مرحى لمدرعاتنا» و«ربع الكفاف الحمر والعُقُل ميالة»، وسواهما من أغنيات ألهمت الحماسة في النفوس، وشكّلت وجدان الجيل الذي كان يحتاج إلى رفع روحه المعنوية.

يقول عميد كلية الفنون بجامعة اليرموك محمد الغوانمة عن ميوله السياسية: «إنه وطني بامتياز». لم ينضمّ إلى أي حزب، واكتفى بالتعبير عن نفسه باللحن والكلمة. وها هي أغنياته الوطنية لا تغيب في المناسبات الوطنية والاجتماعية، حتى يومنا هذا.

تشاركه زوجته جميلة، الحياة بحلوها ومرّها، ولهما ستة أبناء، بينهم فتاة، والأكبر طبيب.

له رأيٌ مبنيّ على خبرةٍ جمعَ فيها التراث لسنواتٍ دون أن يكلّ أو يملّ: «الأغنية الشبابية فقاعات صابون». وهو رأي يستند إلى مقارنة ربما تكون غير عادلة، فالزمان لم يعد زمانه على ما يبدو، و«الإيقاع» اختلف!

يصفه الغوانمة بقوله: «إنه طيّب، مُقِلّ في الطعام، لسانه عذب، والكلام عنده جميل»، ويتابع: «ثقافته واسعة في مجالات المعرفة ومتنوعة، متعمق في الأدب والشعر، صاحب نظرية في الصحة، له برنامج مشي في الصباح، يشرب باعتدال، صاحب طرفة وأنيق».

ويقول عنه الكاتب محمد ناجي عمايرة، إنه «أنعش ذاكرة الكثيرين بتلك الأغاني والأهازيج الجميلة التي حفظناها صغاراً، وتربّينا على إيقاعها في المناسبات الخاصة والوطنية».

خلال مسيرته في الفن التي تجاوزت ستة عقود، كتب نحو مئة أغنية باللهجات اللبنانية والمصرية والسورية، وقدم ألحانه على مدى سنوات لفنانين عرب من بينهم سميرة توفيق ونجاة الصغيرة ونصري شمس الدين ووديع الصافي.

تأثر بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وظل يمارس هوايته التي يقلّد فيها «المونولوجات» الساخرة والناقدة، إلى وقت قريب قبل أن يقتعده المرض ويجعله ملازماً للفِراش.

رغم ثقل السنين، ما زالت ترافقه البسمة والروح العذبة، وقد قابلَ، أطال الله في عمره، ذلك الخبر الذي نشرته صحفٌ قبل شهور حول وفاته، بالابتسامة والغناء والنكتة.

توفيق النمري: عميد الأغنية الأردنية
 
01-May-2010
 
العدد 11