العدد 9 - اجتماعي
 

عندما تلتقي رجاء، 32 عاماً، بنساء كبيرات في السن من العائلة أو الجيران، فإنهن غالباً ما يختمن مصافحتهن لها بالدعوة التالية: «الله يستر عليك».

تتساءل رجاء، معلمةُ رياضيات تقيم في الزرقاء، لماذا لا يدعو أحد بـ«الستر» لشقيقها الذي يكبرها بسنتين وغير المتزوج هو الآخر، ولماذا يكتفي أهلها بتذكيره بين وقت وآخر بضرورة أن يتزوج، في حين أن عدم زواجها هو الهمّ اليومي «الذي يكبس على نفَس الجميع»، ولماذا لا يُشعره أحد بالذنب أو بالنقص، كما يفعلون معها عندما يذكّرونها بالعرسان الذين رفضَتهم في الماضي، ويحمّلونها مسؤولية عدم الارتباط. وهي تتساءل أخيراً: لماذا تكون العنوسة وصمةً؟ ولماذا لا يكتفي المجتمع بجعلها وصمة، بل يلصقها بالمرأة فقط؟

رجاء واحدةٌ من 100 ألفٍ تعدّين الثلاثين من دون زواج، وفقاً لما كشفته دراسة أجرتها وزارة التنمية الاجتماعية. الدراسة التي أُطلقت نتائجها أواخر العام 2008، ذكرت أنه في العام 1979، كان هناك 7 آلاف فتاة فقط تعدّين الثلاثين دون زواج.

العنوسة، بحسب أستاذ علم الاجتماع حسين محادين، وصفٌ للرجل والمرأة على السواء، لكن حصرها بالمرأة كما هو حاصل «غير منصف، وسببه أننا نعيش في مجتمع ذكوري وفي ظل ثقافة مجتمعية تفضّل النساء صغيرات السن، وهو أمر يتعلق أساساً بالتركيبة البيولوجية للمرأة التي تجعل لخصوبتها سنوات محددة تكون فيها قادرة على الإنجاب».

القدرة على الإنجاب كانت أحد المعايير الأساسية التي اختار وفقها معروف، 43 عاماً، عروسه. معروف الذي بقي إلى سن الثامنة والثلاثين دون زواج، لم يجد صعوبة في الارتباط بفتاة عمرها 27 سنة. «حسبتها بالطريقة التالية: أريد أربعة أطفال، وإذا قلنا إن بين كل طفل والثاني ستكون هناك سنتان أو ثلاث، فهذا يعني أنها يا دوب تلحّق تجيبهم».

لكن حياة، 34 عاماً، مهندسة، ترى، بعيداً عن الاعتبارات البيولوجية، أن عدّ العنوسة مشكلةَ المرأة فقط، سببه أننا نعيش في «مجتمع ما زال يرى أن المرأة ومهما بلغت من العمر والمستوى العلمي والمهني والاستقلال الاقتصادي، يجب أن تكون في حماية رجل». وهي تروي في هذا السياق موقفاً حدث معها عندما ذهبت لاستئجار غرفة في سكن للموظفات، فطلبت منها المسؤولة عن السكن رقم هاتف «ولي أمرها». تقول: «سألتُها: شو يعني: وليّ أمري؟ فقالت: والدك. قلت لها إن والدي متوفى، فقالت: واحد من إخوتك الذكور، قلت لها: عندي أخ واحد عمره 21 سنة، وأنا أدفع أقساطه الجامعية، فقالت لي: طيب أعطيني رقم تلفونه».

معروف، الذي تزوج من فتاة تصغره بأحد عشر عاماً، لم يكن أبداً محرَجاً من وضعه كأعزب، بحسب ما قال لـ ے، وهو يفسّر ذلك بقوله: «الشاب عندما يبقى دون زواج فهذا خياره، أما الفتاة فأعتقد أنها تعنّس رغماً عنها».

وهنا تشير الكاتبة لانا مامكغ، إلى حقيقة أن خيارات الرجل دائماً أكثر من خيارات المرأة، فالرجل «يمتلك حق المبادرة تجاه أيّ امرأة يراها مناسبة، أما خيارات المرأة فمحصورة بمن يتقدّم لها».

كثيرٌ من الفتيات يعلّقن على الطريقة التي تدار بها المناقشات حول قضية العنوسة، عندما يتم تصوير ارتفاع تكاليف الزواج بوصفه العامل الوحيد لهذه المشكلة، وتركيز التوصيات بالتالي على تخفيض تكاليف الزواج، ومنح الشبان قروضاً ميسرة. تقول عرين، 28 عاماً، فنية مختبر، إن إهمال العوامل النفسية والعاطفية ، يجعلها تشعر أنها «سلعة». وتتذكر أنه قبل عشر سنوات، كان التلفزيون يبث إعلاناً عن قرض بشروط ميسرة لأحد البنوك. الإعلان يصوّر شاباً تستوقفه في الشارع لافتة تبين مزايا القرض، فيقف للحظاتٍ منغمساً في حلم يقظة يتخيل فيه قائمة «الأشياء» التي سيحصل عليها بوساطة القرض: سيارة فخمة، شقة مريحة، وفتاة جميلة كانت تقف على شرفة منزل أهلها.

تقول عرين إنه في حالتها لم تكن التكاليف يوماً هي العائق، لكن مشكلتها كفتاة تعيش في مجتمع محافظ قائم على الفصل بين الجنسين، أنه لا تتاح لها فرصة حقيقية لمعرفة من يتقدمون لها. «لا أعرف كيف يمكن أن أشارك حياتي مع شخص جلست معه مرة أو اثنتين في صالون العائلة. لو كنت سأشاركه في محل خضار يجب أن أعرفه أكثر».

متخصصون يؤيدون أن التركيز على الجانب الاقتصادي للقضية، وتصويره بوصفه العامل الوحيد ليس صحيحاً. يقول المتخصص في علم الاجتماع محمود عياد، إن في ذلك إغفالاً لعامل آخر، يتمثل في ارتفاع منسوب الوعي والاستقلالية لدى النساء، وهو أمر «فرضته التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع الأردني في السنوات السابقة».

هذا ما تؤكده مامكغ، حيث ترى أن بقاء المرأة دون زواج لا يكون دائماً رغماً عن إرادتها. «في حالات كثيرة يكون هذا هو خيارها الشخصي، فوعيها واستقلالها المالي، وهامش الحرية الذي تحصل عليه نتيجة ذلك، يجعلها ترفع من سقف شروطها، ولا تعود الفكرة مجرد الزواج في حد ذاته».

حياة، إحدى اللواتي اخترن البقاء دون زواج. تقول: «لا أدعي أنني عازفة عن الزواج، لكنني الآن مستقلة في حياتي اجتماعياً واقتصادياً، وإذا كان الزواج يعني أن هناك من سيأتي ويكتم على نفَسي فأنا لا أريده». لكن حياة التي تنتمي إلى وسط منفتح اجتماعياً، وتعيش حياتها بحرية، فتخرج بعد العمل مع أصدقائها، وتتابع الكثير من النشاطات الفنية والترفيهية التي تقام في عمّان، ترى أنه ليس عليها أن تدفع الثمن الذي تدفعه عرين، تلك التي تنتمي إلى وسط محافظ، وتقول إن المصير النمطي للعانس في بيئتها يرعبها. «أفكر في حالي عندما يموت والداي. في عائلتنا لا تعيش النساء وحدهن، هذا يعني أنني إذا بقيت دون زواج، سوف أتشرّد بين بيوت إخوتي الذكور».

الخلل في المناقشات الدائرة حول القضية يكمن، لا في تصوير العامل الاقتصادي بوصفه الوحيد، وإنما أيضاً في أن التعاطي مع هذا العامل تعوزه الدقة، بحسب عياد. «غالباً ما يتم تحميل الفتيات وأهاليهن مسؤولية العنوسة، عندما يتم تصويرهم بوصفهم متعنّتين يتمسكون بالمظاهر الاجتماعية، وتنطلق بالتالي الدعوات إلى التخفيف من الغلواء. المجتمع نفسه ما زال يضغط على هؤلاء باتجاه رفع التكاليف، لأنه ينظر إلى الفتاة على أنها سلعة تتحدد قيمتها بالمبلغ المدفوع فيها».

يضيف عياد: «المتعارَف عليه اجتماعياً أن تكلفة الزواج تتناسب طردياً مع توافر مواصفات معينة في الفتاة، مثل أن تكون متعلمة وعاملة وجميلة. تكلفة الزواج من فتاة جامعية أكبر من تكلفة الزواج من غير الجامعية، والموظفة أعلى سعراً من غير الموظفة، والجميلة أغلى من غير الجميلة. إن لم يكن هذا تسليعاً للنساء، فماذا يكون إذن؟».

عوض، 57 عاماً، سائق سرفيس، يؤكد الفكرة نفسها. عوض لديه تسع بنات تراوح أعمارهن بين العاشرة والسابعة والعشرين، ويقرّ لـ ے أنه تساهل في تزويج ابنته الأولى، علّ ذلك يساعد على «تمشية حال أخَواتها»، لكن تساهله انقلب بمأساة. «قبلت بذهب مقداره ألف دينار، مع أن المتعارف عليه في وسطنا 2000 دينار، وقبلت أن تقام الحفلة في منزل أهله وليس في صالة أفراح، كما قبلت أن تسكن البنت في غرفة مع أهله، وعند أول مشاجرة بينها وبين زوجها قال لها: لا تشوفي حالك كثير، أهلك رموكِ عليّ ببلاش».

يقول عوض بحسرة إن شباناً «قادرين على الدفع» تقدموا لبناته، غير مرّة، لكنهم كانوا «يفاصلون»، لأنهم كانوا يعرفون أنه يريد «تصريف البنات».

الحل في رأي عياد، هو إخراج الزواج من صيغته التقليدية التي لا يرى أنها إنسانية. «الزواج التقليدي نتاجُ عملية تقييم لمواصفات مادية يجريها كل طرف للآخر، يتلوه تعارف، هو أشبه بالمعاينة السطحية يقوم بها الطرفان مع الأهل. الحلّ هو الدفع باتجاه تغيير المجتمع كي يعترف بحق الشبان والفتيات في أن يندمجوا ويختبروا أنفسهم في علاقات قائمة على التفاعل الحقيقي».

لكن ثمة من يرى أن هناك نمواً متزايداً في العلاقات خارج إطار الزواج، بما يشي بـ«تساهل المجتمع تجاه علاقات مستورة ومسكوت عنها»، كما يقول محادين.

عياد يقول إن كونها «مستورة»، هو بالضبط ما يجعلها محاطة بالمحاذير. «كثيرون ينتقدون العلاقات ما قبل الزواج، ويقولون إنها مدعاة للانحراف. الأخطاء تحدث لأن أصحابها يضطرون لإخفائها. أما إخراجها إلى النور وإعطاؤها الشرعية، فيسمحان لها بالنمو بشكل صحيّ، وتشكل، من ثم، أرضية مناسبة لمؤسسة الزواج».

العنوسة تشمل الذكور والإناث 100 ألف أردنية بانتظار «الستر»
 
01-Mar-2010
 
العدد 9