العدد 8 - الملف
 

تتذكر عائشة أبو غزالة، 64 عاماً، عندما زار الملك الراحل الحسين بن طلال جبل القلعة، ووقف في الشارع الرئيسي على سفح الجبل يتأمل المنطقة الأثرية على قمته والعشوائيات التي نمت ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر وتناثرت على سفحه، وتروي أنه قال: «هذا الوضع يجب أن يتغيّر».

عائشة كانت في التاسعة عندما سكن أهلها الجبل، وما زالت تقيم فيه، حيث تعاون ابنها في دكان البقالة الذي يملكه، وقد أشارت إلى أعمال الهدم التي تقوم بها أمانة عمان في المنطقة المجاورة للدكان، وقالت بقلق «يبدو أن التغيير قد بدأ».

حالة من الترقّب والقلق تسود بين السكّان، وهم منشغلون منذ أشهر بهذا «التغيير»، يترقبون أن تتضح ملامحه، وقلقون من انعكاسه على حياتهم ومستقبلهم في الجبل الذي ولد معظمهم فيه.

هذا القلق، بحسب «ج»، وهو صاحب محل تجاري في المنطقة فضّل عدم ذكر اسمه، بدأ قبل سنة عندما سرت شائعات بأن الأمانة بصدد هدم أعداد كبيرة من البيوت بهدف «خصخصة» الجبل وتحويله إلى منطقة سياحية، ولكنها شائعات حاول أمين عمان عمر المعاني تبديدها بعدها بأشهر، عندما التقى بالسكان في حزيران/ يونيو 2009، وأكّد خلال اللقاء بأنه «لا خصخصة للمنطقة ، ولاهدم للبيوت». وقد جاء هذه اللقاء لامتصاص قلق الأهالي، وللتسويق لمشروع التطوير الذي أطلقته الأمانة في منتصف تموز/ يوليو 2009.

بحسب المعاني، فإن المنطقة لم تلق، وعلى امتداد العقود الماضية، الاهتمام اللائق بها، وعدم الاستغلال الأمثل لها كما يقول كان السبب الرئيسي لعدم رواجها سياحياً مقارنة بمواقع سياحية أخرى. يحدث هذا في الوقت الذي تتمتع فيه المنطقة بأهمية تاريخية عظيمة، فجبل القلعة تصفه الأدبيات بـ«المتحف المكشوف»، إذ يضم ما تبقى من معبد هرقل الذي شيده الإمبراطور الروماني أوريليوس في السنوات ما بين 161/166 ميلادية، وفيه بقايا كنيسة بيزنطية ترجع إلى القرن السادس الميلادي، إضافة إلى القصر الأموي، وفي الجبل أيضاً، متحف الآثار الأردني الذي بني العام 1951.

الهدف الأساسي للمشروع كان تأمين نظام خدمات متكامل للزائر تفتقر إليه المنطقة الأثرية، وهو نظام من شأنه كما تقول الأمانة أن يحوّلها إلى متنفس حيوي لسكان المنطقة من ناحية، ويوفر من ناحية أخرى للسياح والزوّار ما يحتاجونه.

هذه الفكرة كانت المحرّك لمشروع تطوير المنطقة الذي نفّذ على مساحة قاربت 100 ألف متر مربع، بالشراكة مع وزارة السياحة والآثار، دائرة الآثار، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ورصدت له ميزانية قدّرت بمليونين و750 ألف دينار، أُنفق منها نحو مليونَي دينار.

وبحسب مدير المشروع يزن البنا، فقد تمّ إنشاء مركز وبوابة وصول لزوّار الجبل، وموقف للباصات والسيارات، وممرات للمشاة صممت لتضمن وصول السائح إلى جميع المعالم الأثرية في المنطقة، كما تمّ إنشاء ساحة مغطّاة بالنجيل للفعاليات التي صدر قرار بنقلها إلى الجهة الشرقية للقلعة، وإلغاء إقامتها قريباً من المعالم الأثرية. أقيمت أيضاً حواجز معدنية حول أطراف الجبل لتأمين سلامة الزوار، إضافة إلى أعمال تتعلق بالبنية التحتية من ماء وكهرباء وصرف صحي وتعبيد شوارع.

الأمانة كما تقول مصادرها عمدت إلى إزالة «التشويه البصري» من خلال إزالة أعمدة كهرباء وأسلاك وخطوط مياه وحواجز قديمة وعناصر خرسانية قديمة، وبيوت مهجورة، وأخرى مسكونة بتجمّعات لعمال وافدين، قالت إنها تشكل «مكاره صحيّة».

لكنّ خلافاً نشأ بين الأمانة ومقيمين في المنطقة، على ما عدّته الأولى «مكاره صحية»، فقد تسلم عدد من السكان يوم 28 كانون الأول/ ديسمبر 2009، إخطارات تطالبهم بأن يقوموا «بإزالة الأبنية المهجورة، المشوّهة للمنظر العام، والتي تشكل مكاره صحية»، وتنذرهم بأنهم إن لم يقوموا بذلك خلال أسبوع من تاريخ التبليغ، فإن الجهات المعنية ستتولى «تنفيذ الهدم على نفقة المالك».

عائلة إسماعيل القيسي المتقاعد من القوات المسلحة، والذي يعتاش حالياً من تأجير صيوانات الاحتفالات، هي واحدة من العائلات التي تسلمت هذه الإخطارات، ويتساءل أفرادها كيف يمكن للأمانة أن تطلق أوصاف «مهجور» و«مكرهة صحية» على منزل تسكنه أربع عائلات مكونة من 20 فرداً تُراوح أعمارهم بين الستين والتاسعة.

المنزل بحسب سكانه الذين يحتفظون بقوشان أرض عثماني يعود إلى العام 1905، هو أول منزل أقيم على الجبل، بناه خالد بن علقم القيسي، وما زالت عائلته الممتدة المكونة من أحفاد أحفاده تقيم في المنزل الذي يتكوّن في جزء منه من مغارات. تقول بسمة القيسي، 58 عاماً، ممرضة متقاعدة من وزارة الصحة، إن جدها الأكبر نحت جدرانها وسقوفها بيديه وما زالت العائلة تستخدمها غرفَ نومٍ ومطبخاً.

«أين نذهب» تتساءل هيام القيسي، 20 عاماً، فالأمانة، بحسبها، اختارت وقتاً سيئاً لتنذرهم بالإخلاء «الدنيا برد، وكانت فترة امتحانات نهائية للأولاد في المدارس، وغلاء فاحش نستطيع بالكاد معه تدبير أمورنا ونحن نقيم في منزلنا، فكيف سندبر أنفسنا إذا خرجنا إلى الشارع؟».

الحال نفسها تنطبق على منزل نظمية البوريني، الذي يستأجره عوض القيسي، المتقاعد من وزارة الاتصالات ولديه 10 أبناء، أكبرهم طالب في الجامعة، وأصغرهم عمره سنة. عوض استأجر المنزل قبل 22 عاماً بمبلغ خمسين ديناراً، ولن يستطيع بأي حال استئجار منزل آخر بهذا المبلغ، مع الأخذ في الحسبان أن أي منزل آخر سيرتب عليه أعباء مواصلات إضافية، لا يتحملّها هو وأسرته الآن بحكم موقع المنزل الذي لا يفصله عن وسط البلد سوى درج حجري.

«لسنا ضد التطوير»، هذا ما يقوله مالك القيسي، 24 عاماً، الذي يعمل بائعاً في محل خضار، ولكنهم، كما يقول، لا يريدون أن يكونوا ضحايا لهذا التطوير، ويريدون أن يتلقّوا تعويضاً عادلاً يؤمن لهم مواصلة العيش بالحد الأدنى من الكرامة التي تتوافر لهم الآن.

التعويض المطلوب كما يقول إسماعيل القيسي، هو منازل «مناسبة» للعائلات المهددة بالطرد، لأن التعويض المالي مهما بلغت قيمته، لن يمكّن هذه العائلات من شراء منازل أو حتى استئجارها. «هناك 156 وريثاً يتشاركون في هذا المنزل، والحال نفسها بالنسبة للمنازل الأخرى، وهذا يعني أن ما ستحصل عليه أي عائلة لن يمكّنها من شراء غرفة»، يقول إسماعيل مضيفاً: «يقولون إنه مشروع سيدرّ أرباحاً كبيرة. حسناً ليؤمّنوا لنا منازل ويخصموا ثمنها من الأرباح».

الأمانة تقول إنها ستقدم للسكان «تعويضاً عادلاً»، فقد تمّ تشكيل لجنة للتفاوض مع المالكين وبعض المستأجرين في المنطقة، ولكن السكان يعبّرون عن قلقهم الشديد، استناداً إلى تجربة مريرة سابقة معها، فمالك يقول إن الأمانة هدمت العام 1982، أجزاء كبيرة من الواجهات الأمامية للبيوت المطلة على الشارع الرئيسي لتوسعته، وتمّ تعويض السكان بمبلغ زهيد. «عرضوا لجدّي وقتها 393 ديناراً كتعويض، لكنه رفض استلامها احتجاجاً على قلة المبلغ».

الأمانة في حينه لم تقم بتوسعة الشارع الذي ما زال على حالة بواجهات بيوته المهدّمة، إذ رفضت كما يقول مالك، أن ترمم البيوت التي هدمتها، ورفضت أن تسمح لأصحابها القيام بترميمها بأنفسهم عندما حوّلتهم إلى دائرة الآثار التي أعادتهم إلى الأمانة، ليبقى الحال على ما هو عليه.

صبرية أرملة فرحان القيسي مالكة أحد المنازل التي تسلّمت إنذارات الإخلاء تؤكّد صحة هذه الشهادات، وتستغرب ترداد الأمانة لمقولة إن منازلهم «مشوّهة للمنظر العام» في حين أنها هي من سبّب هذا التشوّه.

صبرية، وبعد حركة الهدم التي قامت بها الأمانة العام 1982، اضطرت إلى الانتقال مع زوجها وأولادها السبعة إلى شقة مساحتها 90 متراً في إسكان ماركا، وذلك بعد هدم غرفتين ونصف غرفة ثالثة، إضافة إلى الشرفة من منزلهم البالغة مساحته 180 متراً، الأمر الذي جعله غير صالح للسكن، حيث قامت العائلة وقتها بتأجيره إلى عمال وافدين.

الشقة التي أسهمت الأمانة وقتها في تأمينها للعائلة، ما زالت صبرية تسدد أقساطها، وقد فقدت بهدم المنزل مصدر دخلها الوحيد البالغ 120 ديناراً هي قيمة الإيجار الذي كان العمال يدفعونه لها، لأن زوجها الذي كان يعمل بقالاً لا يملك راتباً تقاعدياً أو ضماناً اجتماعياً «الأمانة لم تبلغني بالهدم، وعلمت بالأمر عندما اتصل بي أحد المستأجرين. راجعنا فطلبوا منّا التوقيع على موافقة على الهدم، ولكننا رفضنا، فقيل لنا إن الهدم سيتم رفضتم أو وافقتم، وقد هدموه فعلاً».

أمر آخر يستغربه السكان هو اتخاذ تجمعات العمال الوافدين كمسوّغ للهدم بوصف وجودهم يشكل جزءاً من «المكاره الصحية» التي قالت الأمانة إن السكان قدّموا شكاوى بخصوصها. «ج» وصف حالة العمال الذين أخلتهم الأمانة، ومعظمهم من المصريين والعراقيين بـ«المحزن»، ففي الوقت الذي تستطيع فيه العائلات الأردنية الإصرار على البقاء في منازلها، فإن هؤلاء العمال «بلا ظهر» وتمّ إخلاؤهم خلال أيام، وكثير منهم مروا على محله يسألونه عن غرف للإيجار.

في السياق نفسه، تنفي هيام أن تكون للشكاوى التي تقدم بها السكان علاقة بالعمال الوافدين. تقول: «إنهم يقيمون بيننا منذ سنوات طويلة وهم في الغالب أشخاص منكسرون يريدون الستر». أما عن الشكاوى فتقول: «منذ سنة ونصف تقدم السكان بشكوى تتعلق بالتحديد بمنزل تملكه عائلة الكسواني وقد هجره أصحابه منذ الثمانينيات، وكان يأتيه أشخاص يقومون بممارسات غير أخلاقية، الشرطة وقتها جاءت وألقت القبض عليهم»، وهنا يعلّق إسماعيل باستغراب على مفارقة أن تستخدم الأمانة هذه الشكوى كمبرر لهدم بيوتهم.

بحسب الأمانة فإن البيوت المقرر هدمها هي 44 بيتاً، ما تمّ هدمه منها هو 30 بيتاً، لكن حالة القلق لا تسيطر فقط على من تسلموا إخطارات الهدم، بل على عدد كبير من المجاورين للمنطقة الأثرية، الذين كانوا يجيبون عن سؤال ے حول تصورهم للمستقبل بقولهم إنهم لم يبلّغوا رسمياً بشيء «بعد»، ذلك أن كثيراً من السكان يتناقلون إشاعة مفادها أن هدم البيوت الملاصقة للمنطقة الأثرية هي مرحلة أولى فقط.

حالة القلق هذه تعمّقها بشكل كبير مخاوف من أن يجبر السكان على النزوح عن المكان الذي وُلد معظمهم فيه، ويتحوّل الجبل إلى منطقة سياحية استثمارية لن يتمكن أبناؤه كما تقول بسمة القيسي من دخولها إلا بتذاكر.

قلقٌ من انعكاساته على الأهالي في الجوار - مشروع «القلعة»: تحديث آن أوانه
 
01-Feb-2010
 
العدد 8