العدد 3 - الملف
 

حظيت السخرية بمكانة خاصة في الكتابة العربية في الشعر والنثر منذ الجاحظ وأبو الشمقمق وغيرهما.. وفي العصر الحديث تجلّت السخرية في أشكال الأدب كافة: مثل الرواية عند إميل حبيبي ومؤنس الرزاز، والقصة عند زكريا تامر ومحمد طمليه، والشعر عند محمد الماغوط ومظفر النواب، والمسرح عند دريد لحام، وعادل إمام.

وقد اعتمدت الدراما التلفزيونية على كَمّ وافر من السيناريوهات الساخرة. ويبدو في الآونة الأخيرة أن المقالة الصحفية خطفت بريق الكتابة الساخرة، وكادت تحتكرها، أو تختزلها. وبرز في هذا الفن كتّاب مقالة مرموقون مثل أحمد رجب في مصر، وأبو قاطع (عبد الجبار وهبي) في العراق، وعبد الكريم أبا زيد في سورية، ومن السعودية أحمد قنديل.

على صعيد الكتابة الساخرة في الأردن، فرغم أن المجتمع الأردني يوصف بالتجهُّم، ويقال إن المواطن لا يضحك للرغيف السخن، إلا أنه من الملاحظ أن أول رواية عربية تحمل الضحك عنواناً لها، هي للروائي الأردني الراحل غالب هلسا، وهي أولى رواياته ونقطة انطلاقه إلى عالم الرواية. وقد تمثل فيها المثل القائل «شر البلية ما يضحك»، والضحك عند الشخصية الرئيسة هو نوع من التمرد الذاتي تشهره الشخصية تجاه تعقيدات الواقع المعيش.

ويعدّ الروائي الراحل مؤنس الرزاز، والقاص الراحل محمد طمليه، من أبرز الكتّاب العرب الساخرين الذين زاوجوا بين الكتابة الإبداعية الساخرة، والمقالة الصحفية الساخرة.

وتخصص الصحف المحلية ومواقع الإنترنت زوايا ثابتة لعدد كبير من الكتّاب الساخرين. ووفقاً للكاتب يوسف غيشان، فإن الكتّاب الساخرين نادرون في العالم، وليس فقط في العالم العربي، ووجود من ستة إلى عشرة كتّاب ساخرين في الأردن، أمرٌ ممتاز، وهو عدد كبير بالنسبة لعدد السكان. غيشان صدر له في الكتابة الساخرة: شغب، مساخر في زمن المباخر، يا مدارس يا مدارس، برج التيس، أولاد جارتنا، مؤخرة ابن خلدون، ولماذا تركت الحمار وحيداً.

تكاد لا تخلو صحيفة يومية أو أسبوعية من زاوية أو مقالة ساخرة. منها كتابات لكتّاب محترفين يكرّسون أقلامهم للكتابة الساخرة، ومنها لكتّاب يكتبون المقالة الساخرة أحياناً.. وقد سجلت المقالة الصحفية الساخرة دخول المرأة ميدان الكتابة الصحفية، إذ أصدرت هند خليفات كتابها الأول اعترافات امرأة لا تجيد لفّ الدوالي الصيف الجاري.

والكتابة الساخرة هي الأكثر رواجاً من حيث عدد القراء، ومن خلال الرسائل والردود التي تتوالى على مواقع الإنترنت، فهي كتابة شعبية، تتمرد على اللغة والقوالب اللفظية، وأحياناً على المفاهيم والقيم السائدة. وتستمد قوة رواجها من «تعرية القبح»، فامتداح الجمال ليس هدف الكتابة الساخرة كما يرى غيشان؛ فـ«الساخر هدفه نقد الحكومات وليس التغزل بلغاليغها، حتى لو كانت تلك اللغاليغ جميلة ومدهونة جيداً بالمساحيق السادّة للمسامات والتجعدات والضمائر». ويذهب غيشان إلى أن السخرية العربية قد تكون امتداداً طبيعياً ومطوراً للهجاء العربي الذي انتقل من هجاء الفرد إلى هجاء الجماعات، إذ كان الرسول محمد يحث شاعره حسان بن ثابت على هجاء الأعداء، وليس على نظم المدائح في زهد الصحابة أو شجاعتهم أو عمق إيمانهم.

للكتابة الساخرة جذور في الحياة الثقافية للمجتمع الأردني، ووفقاً للكاتب الساخر أحمد أبو خليل، صاحب كتاب بؤس الفسفسة، فإن مصطفى وهبي التل (عرار) ساخر، وكان في نمط كتابته في الشعر والنثر بعض التهكم من المجتمع، ولم يكن هناك احتراف في الأدب الساخر حينئذ. وفي مرحلة لاحقة بدأت تظهر صحف متخصصة في التهكم الساخر، وفي الفترة التي شهدت انفتاحاً ومناخاً من الحرية في الأربعينيات والخمسينيات، شاعت كتابات مناور عويس، ولطفي ملحس صاحب كتاب دبابيس، وهاشم السبع الذي أنشأ صحيفة الصريح. والمطّلع على الأدب الساخر في تلك الفترة يلاحظ علوّ النبرة التهكمية، لكن أولئك الكتّاب لم يصنفوا أنفسهم بوصفهم كتّاباً ساخرين.

عند الحديث عن التجهم الوطني، لا بد من الإقرار أن الأردنيين بعامة ليسوا فكهين، وليسوا أصحاب نكتة، وإن كانت النكتة تضحكهم ويتداولونها، على أن السخرية متأصلة فيهم. وهناك فارق بين النكتة والسخرية. السخرية فن له شعبيته ومحبوه؛ من البسطاء والشعبين إلى الأغنياء والمسؤولين. هو أدب مصدره الشعب وموئله الشعب. والأدب الساخر له خصوصية تميزه عن فن النكتة.

يقول غسان كنفاني -وهو ممن كتبوا المقالات الساخرة التي كانت تصدر في ملحق الأنوار الأسبوعي، إن السخرية «ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، لكنها تشبه نوعاً خاصاً من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحي مهرجاً».

يرى أحمد أبو خليل: «أن الكتابة الساخرة مستوى آخر من التهكم، فهي تختلف عن النكتة لأنها تحمل موقفاً أشمل، ولأنها تحكي عن كشف المفارقة والتباين، وتسليط الضوء على ما هو غير رسمي من الظواهر في حياة الإنسان والمجتمع. كأن يكون هناك مشهد عام تقليدي ويراه الناس طبيعياً وعادياً، لكن إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى مختلفة ومفارقة وحقيقية، حينها يحولها الكاتب من مشهد عادي إلى حالة السخرية التي تثير الانتباه».

الكاتب الساخر أحمد حسن الزعبي، صاحب كتابَي سواليف والممعوط، يصف الأدب الساخر بـ«أعرق الأسلحة وألطفها»، لأنه يعبّر عن الواقع المرير بالضحكة، وأحياناً بالضحكة المرة، الناتجة عن المعاناة والإحباط. ويرى أن السخرية الحزينة هي الأكثر مرارة، فهي سلاح الفقير على الغني، والضعيف على القوي، وسلاح المظلوم على الظالم. ويتابع: «النص الساخر هو الخلطة السرية بين اللغة والمفردة والحكاية الشعبية واصطياد المفارقة في المشهد والخبر والحدوتة. الكتابة الساخرة هي الأقرب للناس، لأنها تنقل المشهد من قاع المدينة ومن المعاناة الفردية للأشخاص».

ويُعدّ الأدب الساخر أحد أساليب التعبير، وهو يقدم المعرفة ويقدم المفارقة، لكن ما يميزه بالأساس أنه يقدم الضحكة والابتسامة فيُشترط في الكتابة الساخرة أن تثير مفارقة تدعو إلى الضحك. ووفقاً للزعبي، فإن الكاتب الساخر يقوم بعمل المغناطيس عندما يلتقط الأحداث البسيطة، والمشاهد غير الواضحة، وينقلها بحرفية أكثر، وهو يتقاطع مع رسام الكاريكاتير بنقل المشهد بعموميته وتفاصيله الدقيقة.

وفي باب الكتابة الساخرة، فإن تجربة فخري قعوار ريادية، وهناك التصوير الفني المفارق والذكي عند عبد الهادي راجي المجالي، وقفشات كامل نصيرات، وتهكمية طلعت شناعة، وخفة دم فهمي العزايزة.

وكما يرى الشاعر العراقي حميد سعيد، فإن هؤلاء الكتّاب الموهوبين، يختزلون الكتابة الساخرة، كما يختزلون مواهبهم، في العمود الصحفي، في هذه الصحيفة أو تلك، بينما كان يمكن أن تمتد الكتابة الساخرة إلى فضاء إبداعي أوسع، وتتفرع في أجناس أدبية أخرى، وبخاصة أن بعض الساخرين جاء إلى الصحافة من جنس أدبي آخر، مثل القصة القصيرة والشعر. ويضيف أن بإمكان كتّاب المقالة الساخرة، بما يتوافر لديهم من أدوات فنية ومعرفية، الخروج من حالة اختزال الكتابة الساخرة، في عمود صحفي، وخوض غمار الكتابة الإبداعية الساخرة، وإغناء الكتابة العربية المعاصرة ومدّها بنسق جديد، فما زلنا إلى يومنا هذا نتمتع بما كتبه برناردشو وألدوس هكسلي وبما قدما من إضافات إبداعية مهمة، من خلال كتاباتهما الساخرة، كما أن تاريخ الأدب، نقداً وبحثاً، أَولى الأدب الساخر الكثيرَ من الاهتمام والتقدير.

أجيالٌ من صنّاع البسمة في وجه التجهُّم الوطني
 
01-Sep-2009
 
العدد 3