العدد 4 - ثقافي
 

انتهى اللقاء المفتوح مع صحفيي «الرأي» الذي تناول كثيراً من ملفات وزارة الداخلية الساخنة في العام 1997، وعلى غير المعهود في التعامل مع الرسميين، شكر الباشا الصحفيين مشيداً بـ«الرأي» وعميدها محمود الكايد، داعياً إلى «كسب» الحاضرين على عشاء تكريماً لهم، فرد محمود الكايد، أبو عزمي، منوّهاً بشهامة الباشا.

في الأثناء، تسلل سؤال عن التاريخ، فقد كان الباشا، أبو جعفر، يتجنب إعطاء أي إشارة عن تفاصيل علاقته بالملك الراحل الحسين، الذي أعاده للخدمة العامة في وزارة الداخلية بعد نحو ربع قرن من مغادرته العمل الرسمي. وبكلماتٍ قاطعة رفض الخوض في الماضي.

لكن أبو عزمي تحدث عن بعض ذلك التاريخ، وقال إن الباشا هو الذي تمكّن من تهريب عبد الحميد السراج مدير المكتب الثاني من السجن بعد اعتقاله إثر انفصال سورية عن مصر. معلومة كهذه تحتاج إلى كتاب، فلماذا لا يوثقها أبو جعفر، إلى جانب ملفات أخرى شهدها وعرف خباياها، مثل حركة الضباط الأحرار، وأحداث الخمسينيات، وأحداث السبعين، والصراع مع منظمة التحرير.

بعد ذلك اللقاء بنحو عقد، صدرت مذكرات نذير رشيد حساب السرايا وحساب القرايا، وخرج على الإعلام في برنامجَي «زيارة خاصة» و«شاهد على العصر»، اللذين تبثهما قناة الجزيرة. ولقد كان السؤال الأهم: لماذا خرج الباشا عن صمته، وقرر الكتابة؟

سبب ذلك على الأرجح أن شخصية الباشا سهلة الاستفزاز، وبذلك يمكن القول إن نشر رشيد لمذكراته جاء بعدما نُشر من مذاكرات حول حقب ومراحل سابقة، لتوضيح مواقفه وتقديم ما لديه من معلومات على السواء. فما صدر قبل ذلك، كان في مجمله مذكرات شخصية تغيب عنها المهنية والتقاليد العلمية الراسخة. نشر شاهر أبو شحوت مذكراته على حلقات في القبس الكويتية، وضافي الجمعاني من الحزب إلى السجن، وعلي أبو نوار في كتابه حين تلاشت العرب، وبطرس الحمارنة زراع الحياة.

تلك الكتب غطت مرحلة الخمسينيات، الفترة الأهم في تاريخ نذير رشيد. وفي قناة الجزيرة، تحدث مشهور حديثة الجازي، في برنامج «شاهد على العصر»، عن مرحلة حساسة في تاريخ رشيد، هي أحداث السبعين. وهذا ما يلحظه المرء بوضوح لدى قراءة مذكرات الباشا، ففي بعض المقاطع في الكتاب، بخاصة عند الحديث عن أهداف تنظيم الضباط الأحرار أو في فترة أيلول 1970، والمواقف التي اتخذتها شخصيات أو تيارات سياسية، تتسم رواية رشيد برفضها الروايات التي أوردتها مذكرات منشورة وأخرى مبثوثة في السابق.

هاجس رشيد إذن هو توضيح روايته، التي بدت مناقضة لروايات أوردتها مذكرات أخرى. كما أن روايته لدوره في أحداث بعينها أكثر دقة للتعريف بدوره ورؤيته لذلك الدور. لذلك يقتبس رشيد مقاطع طويلة من كتاب عبد اللطيف العزة زمن الاعتكاف، حول علاقة الضباط بمصر وسورية، وحول تعريب الجيش، قبل أن يقدم روايته ودوره في كلٍّ من الموضوعين. ويقول نصاً: «وصُدمت عندما اكتشفت أن هناك علاقة تنظيمية لبعض الضباط بحزب البعث».

لم يكتب نذير يوميات يعود إليها، وإنما كتبَ من وحي استفزازه، وما يثار من أسئلة حول ما كُتب في حينها وقت الحدث. ففي موضوع الضباط الأحرار يتحدث وكأنه ضد انغماس الجيش في السياسة، فالهدف الوحيد كان إخراج كلوب باشا وغيره من القيادات البريطانية، ولم يكن للضباط تنظيم سياسي أيديولوجي، وهذا محل نقاش. إلا أن الكتاب جاء على معلومات غنية في ما يتعلق بكيفية نشوء التنظيم، وفقاً لما يورده أحد مؤسسيه. إذ يؤكد رشيد أن التنظيم بدأ قبل العام 1952، وتحديداً في العام 1951، وهذه معلومة على أهميةٍ بالغة، لأنها تكشف أن التنظيم لم يأتِ محاكاةً لانقلاب الضباط الأحرار في مصر، بل جاء بمبادرة خاصة وذاتية أساسها نتائج حرب 1948، وعدم الثقة بقيادة الجيش.

الكتاب يزود القارئ بصورة إجمالية حول التنظيم، تشتمل على قدر كبير من التفاصيل حول منعطفات محددة، مثل علاقة التنظيم مع القيادات العليا في الجيش، وعلاقته مع الملك الحسين، ومع حزب البعث أيضاً. ويعرض الكتاب تشكيلات الضباط الأحرار في الكتائب، وقنوات التواصل بين قيادات التنظيم.

بالطبع، لم يفوت رشيد فرصة الحديث عن كيفية تطور قادة التنظيم سياسياً في الستينيات والسبعينيات، وكان السؤال حينئذ: هل يقفون ضد الدولة، أم أصبحوا جزءاً من النخبة السياسية في الدولة؟ وفي المذكرات تبسيط لمناورة هاشم، أو ما عُرف بـ«تطويق عمان». وهي من أكثر القضايا إشكالية في فترة الخمسينيات، وكان دور رشيد فيها محورياً. ويتوقع القارئ الإسهاب في هذا الموضوع، والاطلاع على معلومات جديدة، لكن رشيد جعله يبدو وكأنه حدث طارئ وإجراء إداري عسكري استُغل من جانب عدد من السياسيين، ما يعكس إشكالية كتابة التاريخ تأثُّراً بالتطورات اللاحقة، شخصياً وسياسياً وفكرياً.

في الكتاب أيضاً إضاءات حول عملية تعريب الجيش ودور الضباط الأحرار وسواهم فيها. إذ لم تكن قراراً إدارياً تمّ بسلاسة، بل هي عملية انقلابية لجزء من النظام على آخر. كما أن المعلومات التي يوردها رشيد في سياق تنظيم الجيش وقيادته ما بعد التعريب، مثيرة للاهتمام، إذ أصبح مجمل الجيش تحت إمرة قيادة شابة تم ترفيع ضباطها بسرعة، ما أدى إلى تشكُّل حساسيات جمة. كانت مرحلة تعريب الجيش، وقيادته بعد التعريب حتى نيسان/إبريل 1957، مرحلة انقلابات عسكرية في دول عربية عدة، لكن الأردن لم يشهد شيئاً من ذلك.

فقد أكد رشيد أن مناورة هاشم كانت مقررة، قبل نشوب الأزمة السياسية بين الملك ورئيس وزرائه سليمان النابلسي، وأن تنفيذها لم يتضمن أيّ رسائل سياسية، أي أنها لم تكن ذريعة للتخلص من النابلسي، وليست مناورة للضغط على القصر أيضاً. قد يكون هذا جوهر القصة، لكن السؤال يبقى مطروحاً: ألم يكن رشيد واعياً لخطورة تنفيذ مناورة ثم الإعداد لها مسبقاً، في فترة أزمة سياسية؟

أحداث السبعين، قدم فيها رشيد الرواية الرسمية التي تكاد تكون الوحيدة لتلك المرحلة الحساسة. فباستثناء ما كتبه الملك الحسين في مهنتي كملك، اقتصرت رواية ما حدث على معارضي النظام المنحازين إلى منظمة التحرير الفلسطينية. لذا، فإن الكتاب يعرض بإسهاب، وجهة النظر الأردنية تجاه العمل الفدائي، وكيف تطورت وجهة النظر هذه مع تطور نشاطات المنظمات الفلسطينية، واختلاف استراتيجياتها. فموقف الدولة الأردنية كما يعبّر عنه رشيد، موقف دفاعي ضد من أصبحوا يطرحون شعار «الطريق إلى تل أبيب يمرّ بعمان».

ومما لا شك فيه أن هناك إضافات مهمة في حساب السرايا وحساب القرايا، بخاصة حول الفترة التي سبقت أيلول 1970 و«الصدام المسلح»، إذ يكشف رشيد أن الانقسام إزاء العمل الفدائي لم يكن انقساماً مجتمعياً فقط، بل طال الأجهزة الأمنية والعسكرية، ومن الواضح أن الذين قرروا الانخراط في خيار الدولة الأردنية -وكان رشيد أحد نجوم هذا الفريق- قاموا بمخاطرة ربما كانت ستنتهي بأن يصبحوا لاجئين سياسيين. الأجواء التي يرصدها رشيد، وبطريقته المختصرة، على درجة عالية من الضبابية، بحيث يبدو وكأن جميع الاحتمالات تحظى بفرص جيدة للفوز.

في المجمل، كتاب رشيد على ما فيه من جديد يَظهر مختصراً، وكأنه يقوم على عناوين ويكتفي بسطور قليلة حول تفاصيل مهمة، وغاب التسلسل التوثيقي، إضافة إلى الثراء الإنساني. ففي حقبة الخمسينيات والستينيات، من المفيد أن يطلّ القارئ على أجواء الشبان القوميين العرب الذين يجولون في عواصم الحرب العربية الباردة، ويشاركون في القتال مع كمال جنبلاط، ويتنقلون بين القاهرة والإسكندرية ودمشق.. ربما من الأجمل سماع ذلك شفاهةً من رشيد، لا قراءته. وفي حلقات «شاهد على العصر» كان الاستفزاز في أوجه، ولم يكن المحاوِر موفقاً في إغناء المذكرات، بقدر ما بدا الأمر وكأنه مساجلة تفتقر للسياق.

المفارقة الأهم في نشر حساب السرايا وحساب القرايا تتمثل في منعه، فالكاتب كان مديراً للمخابرات ووزيراً للداخلية، بمعنى والمرء يفترض أن يَمنع هو الكتبَ، بحكم سلطةٍ ما كانت بيده، لا أن يُمنع كتابه. لم يقدّم رشيد سبباً مباشراً للمنع، إلا أنه ألمح إلى أن ذلك ربما يعود إلى حديثه عن مرجعية الأمير الحسن في أحداث السبعين، وكيف أن أشرافاً تخلّوا عن ألقابهم خشية انهيار النظام.

يظل الكتاب على ما قيل فيه من نقد، إضافة مهمة للتاريخ المعاصر في الأردن، فثمة عطش حقيقي لكتابات تجسّد رواية الأردنيين لتاريخ بلدهم والمنطقة بعامة. ولو أن جهداً ممؤسساً وقف وراء الكتاب لقُدِّم بشكل أكثر تماسكاً وتفصيلاً. لكن يكفي الباشا في هذا العمر، أن وضعَ عناوين ومفاتيح لأجيال ربما تنجح في توثيق تاريخ بلدها بشكل علمي ومنهجي في إطار مؤسسات بحث علمي، لا بمجرد مجهودات شخصية. وما استفزَّ الباشا ليكتب ربما يستفز آخرين ليكتبوا، ويضعوا مساهماتهم، والأمل أن يكون هنالك جهد مؤسسي يُبرز الكثير من التفاصيل، ويربط ما بين الإنساني والتاريخي والسياسي.

حساب السرايا وحساب القرايا: كتابةُ التاريخ بدافع الاستفزاز
 
01-Oct-2009
 
العدد 4